نافذة على الإبداع - د. محمد صالح الشنطي
مناجاة حميمة لمعشوقة جميلة بدأ بها الديوان، لأميرة اللغات تجمع بين غنائية صافية وتأمل عميق في تجليات متوهّجة ومشاهد جامعة بين جماليات الصور وسحر البيان في تتبع منتظم لمعارج الصعود ومدارج الهبوط، وغربة اللسان ولوعة الاغتراب والضياع في مجاهل التاريخ، وبين مظاهر النّقاء والصفاء وفضاء الصحراء والبيداء في تجليات كونيّة، ما بين بروقٍ تلمع في أرجاء الصحراء والفلاة، وغيوم سخيّة تغطّي وجه السماء، استحضار لقامات شعريّة من أصحاب المعلقات ، كل بما اشتهر به من سماتٍ ميّزته عن الأخرين ريادةً وسلوكا إنسانيّاً وما أثر عنه من دور في تجليّات جماليّة تزدان بها العربية وتختال على وجه البريّة :
كنت قبل المخاض في غيمة
الشعر بروقاً ترقبتها الفلاة
سمرا في ليل امريء القيس تجلين
هموماً تطول فيها الشكاة
وعلى سيف عنتر غارة تسمو
عفافاً فمنتهاها الكماة
وتأنت في حكمة ( ابن أبي سلمى)
سلاماً تأوي إليه قطاة
لقد جاء بالّلغة ترفل في أثواب متعدّدة الأشكال والألوان، تتماهى جمالًا وثقافةً مع الكائنات الباذخة والنجوم الّلامعة في تسلسل وترابطٍ وانسجام : الصحراء والفلاة والصّخر والنّحت والموج والأصداف، عبر حلقات زمنيّة تاريخيّة غير عارية من ترف الفن وبذخ الجمال، فمن أعلام الجاهليّة إلى أساطين الشعر في زمن الأمويّين مقرونةً إلى عباراتٍ من شوارد الكلم وجوامع الحِكَم ؛ فالفرزدق ( ينحت من صخر وجرير يغرف من بحر ) .
وهو إذ يغادر مُربّع التاريخ يلِج إلى دائرة الشعور والوجدان : الذكريات والأحلام والأفراح والأحزان والعشق والآهات والهمسات، ثم الخيال والفكر في تناسقٍ وتناسجٍ بين الرؤى والتشكيل، وترسوفي محطة العلم إيقاعا ًومعجماً يمتحُ من معين اللغة، ويتشكّل في رياضها الفيحاء، فيستحضر الخليل بن أحمد وعلم العروض ومعجم العين دلالة على عبقريّة اللغة وكنوزها: شعريّة تتناسج فيها النّصوص وتستلهم فيها الشخوص وتتداخل فيها المشاهد : حقول من الدلالات تتراصف في منظومة مجازيّة تستثمر أدوات الفن من نحت ورسم وتخييل وانزياح في التراكيب، وتعالق في حقول الدلالة، بعيداً عن التسطيح والمباشرة والخطابة.
متعة حين يصبح الفكر صيّاداً
له من بين الخيال مهاة
لقد آثرت أن أقف عند هذه القصيدة التي استهل بها الديوان مستذكراً مناسبةً تاريخيّةً تتمثّل في (اليوم العالمي للغة العربيّة) حيث اعترف العالم للغة الضّاد بمكانتها فقدّرها بعض قدرها.
أما قصائد الديوان الأخري التي انتظمت في أربعة عقود فقد جاست خلال الآفاق متوغّلة في الكشف عن موقف الشاعر من القصيدة والذات والحياة، وقد قارب مسألة بالغة الأهمية، تجاوز بها جفاف التنظير والتأطير إلى فضاء التخييل والتأثير، متمثلاً موقف المبدع والمتلقّي، متصوّراً دور كل منهما عبر الّلحظة الشعريّة التي تحوّل اللحظة برُمّتها إلى رؤيا، وليس توجيهاً مباشراً كما قد يتبادر إلى الذهن، فالخطاب عابر للتوجيه والتعليم ليحط رحاله في ساحة الشعر محيلاً الموقف كلّه إلى جوهر النسيج الخطابيّ الشعر، فيحلّق في فضاء الخيال ليحطّ في حقول الوجدان، فتتحول لحظة التلقي إلى توحّد صوفي تتداخل فيها الذات المبدعة مع المتلقّية في ثنائيات متشابكة، كما الصوت والصدى منذ العنوان المنخرط في بديعيات اللفظ والمعنى (الجناس وما يقارب المطابقة أو المماثلة) : هناك التعدّد والاكتشاف، ثم الشمس والنشوة والغزالة والحمامة والنهر والضفة والارتحال والخرائط والمثول والظلال إلى آخر هذه الثنائيات التي لا تقتصر على معاني المفردات بل تتعدّى ذلك إلى الصياغات اللغوية والأساليب الخبر والإنشاء : بالتقرير والأمر وعلى مستوى الصور المشاهد ضفائروحوار بين آمر ومتلق للأمر، فالمبدع سيّد الموقف والمتلقي هو المأمور، وإن كان - في حقيقة الأمر - صاحب التجربة المخذول المغلوب الذي يطلب من قارئه أن يسنده، مخاتلة دلاليّة وتحديق في أعماق الذات وفي مرآة التلقي ورصد لذبذبات الصدى :
أنا شاعر قتلته الغزالة
وهي تطل وتنأى
فكن قاتلاً لسكوني كي تتحول مديتك الآن
غصنا تحط عليه
الحمامة طيّعة لاهفة
ثمة تقابل وتوازٍ وتجاوب وتآزر بين الضمائر (أنا وأنت وهي) ثلاثية تنهض عليها بنية الخطاب ؛ ومن الواضح أن الشاعر يطيل التحديق في مرآة التلقّي مستكشفاً ذاته ومناجياً قارئه باثّاً للواعجه متمثلاً لأزمته في تشكيلات لغوية وتصويريّة موزّعة على مقاطع القصيدة، مستثمراً لفضائها البصريّ طولاً وقصراً في تدرّج وتماوج عبر تفعيلة (المتقارب) المطواع في إيقاع مرن وسلاسة منسابة توسّع الأمداء أمام أنفاس الشاعر التي تتردد في جنبات القصيد، ولكنه بعد أن يعجم عيدان تجربته الشعرية يختمها بالاعتداد بالذات، فهي غيمة تتحول إلى شجرة وارفة :
«أنا غيمة عبرت/ فوق غفلتك المستطيلة / وانهمرت في سفوحك / أشجارها الوارفة»
والشاعر منشغل بهموم الشعر والإبداع في ديوانه، يستلهم قصيدة الشاعر سويد بن كراع التي يقول فيها :
أبيت بأبواب القوافي كأنما
أصادي بها سرباً من الوحش نزّعا
أكالئها حتى أعرس بعدما
يكون سحير أو بعيد فأهجعا
وذلك في قصيدته (تورّط شعراً) ويعارضه في قصيدته العينيّة وزناً وقافية متمثّلا لتجربته الإبداعيّة معبّرا عنها، ولكنه يتجاوز المعارضة التقليدية إلى صنع المفارقة التي تمتح من عمق الرؤيا.
ويستثمر الشاعر تقنية ( القناع) الذي يختفي خلفه متباعداً قيد خطوات عن الذات الشاعرة ليفسح المجال أمامها كي تأخذ مداها الممكن في بثّ شجونها وهمومها دون أن تتورّط في اتخاذ موقف يُحسب عليها، فيستوحي شخصية أبي فراس الحمداني في خطابه لسيف الدولة، مستعيداً إلى الذاكرة أزمته التاريخيّة حين كان يرسف في أغلال الروم التي عبر عنها في (روميّاته) الشعرية المعروفة مستثمراً طاقته التعبيريّة ليفضي بما يعتلج في صدره مما يرى في بعض البلاد من حوله :
يا سيف الدولة
بيتي يقصفه الثوار
والبيت الأخر
تقصفهة قوات حماك الأخيار
وكما يختار قِناعه للتعبير يختار المخاطب الذي يتوسّم فيه البراءة، وربما طفولته أو ذاته فينزع نحو (التجريد التراثي) فيصوغه بما يناسب تجربته الإبداعيّة في قصيدته (مرثيّة مؤجّلة)
وتظل قضية الإبداع شغله الشاغل في عدد من قصائد الديوان كما في قصيدته (بلاغة التعرّي)
«تعرّي قليلاً / أمام القصيدة / كي تلجميها عن النطق /كوني الكلام/ الذي يمنح اللغة الشهوة العارمة»
وكما القصيدة تبدوالنخلة صنواً لها، فهي ليس مجرد شجرة، ولكنها مناط الانتماء ومصدر الحياة والحضن الدافئ والرحم المُبرّأ من الدنس، وهي كينونة البقاء ورمز النقاء والعطاء، وكأنّي بالشاعر يرسم بفرشاته ( بورتريه) لجوهر البقاء، يتسلّل عبر شريط من الصور عن تضاريس العشق في قصيدته (تعويذة خضراء) لايقرّر ولا يصرّح بل يستلّ من مذخور اللغة والذاكرة والوجدان معجمه وتصاويره، ويستثمر طاقته التخيليّة ليعبر عن عشقه الصوفيّ ؛ بل توحّده في هذه الشجرة الخضراء مُفرغاً حمولات مفرداته الدلاليّة في تصوّره للنّخلة حقيقةً ورمزاً وانتماءً.
وهاجس الموت يبدو في ديوانه ماثلا في قصيدته (محطة الموت) التي اصطنع فيها أسلوبا ينهض على سرديّات أربع : ثلاث منها تتحدث عن ارتقاب لحظة النهاية لدى ثلاثة من الرجال يساورهم هاجس الموت فيتمثّله شعراً في مقطوعات ثلاث، والرابعة خاصّة بفتاة اختارت لحظة موتها طواعية، وهي قصيدة لها جمالياتها الخاصة التي يتداخل فيها السرد مع الوصف: (رجل أفقدته السنون طويلا / بكى على نصفه الميت ) و(رجل لم يفكّر بأن اصفرارا خبيثا / سيجثو في دمه/ فجثا) و(رجل تفكيره في اللحظة تلك/ متى ستكون هنالك)
أما السرديّة الرابعة فبطلتها فتاة قررت أن تتحدى الموت لتختار لحظة موتها متحدّيةً له حارمةً إياه من فرض سلطانه، فلسفة تتجاوز التجربة الشعرية في بعدها الوجداني إلى رؤية بعيدة تنهض على رؤيا وجوديّة بالغة العمق .
والديوان زاخر بالرؤى والجماليات، وحسبي هذه الوقفة القصيرة المتاحة، ولعل فرصة أخرى تسنح لقراءة أوفى وأعمق .