ريادة القصيدة الرقمية في المملكة.

تتمظهر التكنولوجيا الرقمية في النصوص الأدبية الشعرية والنثرية التي تُنشر اليوم في الغرب وفي العالم العربي. اعتمدت النصوص الأدبية على التكنولوجيا الرقمية على نحو مُلفت؛ فأصبحت تُكتب وتُبنى بواسطة برمجيّات لا تسمح بإنتاجها وتلقّيها -على حد سواء- إلا عبر شاشة الكمبيوتر الزرقاء. وقد مرّت عملية مزج القصيدة بالتكنولوجيا في المملكة بعدّة مراحل زمنية، وصولاً إلى عصر الصورة وتطوّر التكنولوجيا الحديثة الذي يُمثّل -اليوم- مرحلة متقدمة من تعامل القصيدة مع التكنولوجيا. حيث تحوّلت القصيدة إلى نص بصري يُكتب، ثم يُشاهد عن طريق جهاز الكمبيوتر، أو الآيباد، أو شاشات الهواتف الذكية، أو شاشات العرض الكبيرة، أو غير ذلك. واكبت مرحلة الحداثة الشعرية في المملكة العربية السعودية تطورًا فعليًا للقصيدة على يد شعراء التفعيلة التي بدأت في السبعينيّات وبلغت أوج نضجها الفني في منتصف ثمانينيّات القرن العشرين. وذلك بالرغم من استمرارها داخل جو المنابر والاستماع الذي بدأت خلخلته وصولاً إلى محاولة كسره في فترة لاحقة على يد قصيدة النثر. فقد حوّلت (قصيدة النثر) جو التلقّي من الاستماع إلى القراءة والتأمل البصري، وذلك بالرغم من استمرار تلقّيها -هي أيضًا- عن طريق المنابر في المناسبات الشعرية المختلفة إلى وقتنا الحاضر. وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي شكّل وصول عصر التكنولوجيا الرقميّة وبداية استخدام أجهزة الكمبيوتر في الكتابة نقطة التحوّل الحقيقية في خروج القصيدة في المملكة إلى عالم التكنولوجيا الحديثة. وصاحب تلك المرحلة الزمنية -حوالي عام 2009 و2010 تقريبًا- حراك ثقافي مؤثّر تولّته الأندية الأدبية الثقافية في المملكة. ومن ذلك قيام نادي “حائل الأدبي الثقافي” بإصدار دواوين صوتية للشعراء ضمن سلسلة “بوح” الصوتية. طُبعت تلك الدواوين الصوتية على أقراص مُدمجة، وأتى الإلقاء الشعري فيها مصحوبًا بموسيقى ومؤثرات صوتية على نحو يمزج الشعر بالفنون الأخرى، ويُخرجه من الطور الورقي إلى طور جديد. وتلا ذلك اهتمام النوادي الأدبية والجمعيات الثقافية بتقديم أمسيات شعرية بمصاحبة عازفين؛ بحيث يتولّى العازف عملية العزف أثناء إلقاء الشاعر لقصيدته على نحو يمتزج فيه الشعر بالنغم وينسجم معه. ثم تطوّر ذلك إلى عرض صور فنيّة تشكيليّة -على خلفية خشبة المسرح- تأتي في هيئة لوحات متتابعة تنسجم مع الإلقاء والعزف وتضيف إليهما لمسة فنية. وذلك على نحو يُخصّب عملية امتزاج الفنون المختلفة وتداخلها مع بعضها لخلق حالة أداء شعري جديد ومختلف عن الأداء المنبري السابق. لقد عملت هذه التجارب والأعمال المختلفة من مهرجانات شعرية وأمسيات تقام على خشبات الأندية والجمعيات الثقافية على إحداث تغيير كبير في الفضاء الشعري والجو العام الذي تُلقى فيه القصيدة. حيث نُسج الشعر بالفنون الأخرى في جو مسرحي يعتمد على الصوت والإضاءة وغيره، وتمّت مسرحة القصيدة -إن جاز القول- ضمن فضاء يستعير من المسرح ويأخذ منه أكثر مما يستعير من الأداء الشعري المنبري بصورته القديمة الراسخة في الأذهان. ظهرت أول تجربة شعرية رقمية في المملكة العربية السعودية عام 2006، وتُمثّلها قصيدة (غواية المكان) للشاعر السعودي محمد حبيبي الذي تُحسب له الريادة في هذا المجال في المملكة. وقد سبق الحديث عن تجربة الشاعر بالتفصيل في كتابي (تجليّات القصيدة الرقميّة في المملكة العربية السعودية) الذي صدر عام 2020 من نادي الأحساء الأدبي. وتُمثّل تجربة الشاعر محمد حبيبي مع القصيدة الرقمية أربع قصائد رقمية، منها ما هو (متعدد الوسائط)، وتُمثّله: (غواية المكان) 2006، و(حدقة تسرد) 2007، و(بصيرة الأمل) 2018. ومؤخرًا نشر الشاعر عمله الرابع (أساف نائلة) في موقعه الرسمي (mohhabibi.com)، مع إشارة إلى أنه قد تم أنجاز هذا العمل عام 2007، ولكنه تأخر في نشره، ومع إرفاق فيديو يوثّق خطوات إنجاز هذا العمل في ذلك التاريخ. ويُمثّل هذا العمل (إساف ونائلة) نصًا رقميًا تشعبيًّا لاحتوائه على عدد من الأيقونات (العُقد)، و(تفاعليًّا بقدرٍ معيّن)؛ حيث يتيح للمتلقي التفاعل معه بواسطة الضغط على الأيقونات التي تنقله من مُتصفّح إلى آخر، ويُتيح له بعضها كتابة ملاحظاته وآرائه حول النص، وكتابة الرسائل والتفاعل مع النص والمؤلف؛ كما في الأيقونات: (رسائل، مفكّرة، شراكة). ولكنه -في الوقت ذاته- لا يُمكّنه من التغيير في نسيج العمل، أو إمكانية إضافة مدخلات تمتزج مع استراتيجيات العمل التعبيرية، كما يحدث في بعض النصوص الرقمية التفاعلية من تمكين المتلقي من كتابة نهاية مثلاً لرواية ما، أو إضافة مُدخلات تُغيّر مجرى أحداث القصة أو مسار شخصياتها. وهذا لا يُقلّل من قيمة هذا العمل التفاعلية، بقدر ما يوضح -على نحو دقيق- المقصود بمصطلح: (نص رقمي تفاعلي) (Interactive text) كنوع من أنواع النصوص الرقمية الموجودة اليوم. ولا شك أن تجربة الشاعر محمد حبيبي مع القصيدة الرقمية تعد تجربة رائدة يُحسب لها السبق كأول قصائد شعرية رقمية في المملكة العربية السعودية، إلى جانب كونها من أوائل التجارب الشعرية الرقمية القليلة التي صدرت في العالم العربي، فضلاً عن جِدّة فكرتها المواكبة للعصر الرقمي، وعمّا بُذل فيها من جهد كبير في عملية إخراجها. وبوقفة سريعة- بقصيدة (بصيرة الأمل) للشاعر محمد حبيبي وردود فعل التلقي حولها، يظهر أن هذه القصيدة الرقمية تقوم على دمج الوسائط البصرية والسمعية المختلفة -كالفيديوهات والأغاني والصور والرسومات- داخل مشهد كُلّي يقدّمها كبنية كبرى وكتلة واحدة غير قابلة للتجزئة يتم المعنى بتمام أجزائها. وتتشكَّل هذه البنية الكبرى أو هذا المشهد الكلّي من عدة مشاهد ولوحات تُمثّل بُنى صغرى متداخلة، ومُمتزجة، ومُتكاتفة بعضها مع بعض. كما تهدف المتون اللغوية وغير اللغوية التي بُنيت القصيدة بواسطتها -عبر استخدام الوسائط الإلكترونية- إلى إيصال فكرة تتمحور حول بعث الأمل وإحيائه بواسطة تكريس الحب الذي يمنح التحرّر والانعتاق. تعددت السجالات والآراء النقدية حول تجربة الشاعر (محمد حبيبي) في كتابة القصيدة الرقمية، وتناول أعماله عدد من النقاد العرب والغربيين، ويذكر الشاعر في شهادته حول تجربته في كتابة الشعر المرئي (كما أسماه)، أن ردود أفعال جمهور التلقي قد تباينت وانقسمت إلى أكثريّة أيّدت التجربة، وأقليّة وصفتها بمجرّد فيلم شعري، أو فيديو كليب شعري. يتحدث الناقد (معجب الزهراني) عن تجربة الشاعر الثانية (حدقة تسرد) واصفًا إيّاها بـ (العرض الشعري)، يقول: “لم يخب ظني وأنا أتابع العرض الشعري في الصالة الأنيقة بنادي جيزان الأدبي”. ويشيد بما حققته التجربة من نسج علاقات مؤثرة بين الشعر وفنون التشكيل والتصوير والموسيقى والحركة؛ فيما يُعتبر مغامرة سبق أن خاضها (الكثيرون) - على حد قوله - من عرب وسواهم. ويضيف أن القصيدة الفصيحة قد تنازلت بذلك - ولأول مرة - عن “أرستقراطيتها المفتعلة لتراقص كل واحد كما تريد ويريد”، وأن “جماليات التنوع في الأصوات والإيقاعات والأشكال نجحت تماماً في استئناس القلوب وأنسنة التصرف”. وإلى جانب الآراء النقدية التي شفّت عن رؤية ضبابيّة تجاه هذا التأليف الرقمي الجديد؛ فقد تناول قصيدة (بصيرة الأمل) لمحمد حبيبي مهتمون بالأدب الإلكتروني، كالرائدة الأمريكية في الأدب الإلكتروني (كاثرين هيلز -Katherine Hayles) التي تُصنّف هذا العمل ضمن الأدب الإلكتروني مشيرة إلى أنه قد نال اهتمامها، وتصفه بأنه عبارة عن صياغة لشريط فيديو شعري بليغ، يضم صفحات كتب يتم تحويلها ببطء. كما يضم صورًا طبيعية مُنتقاة تم تصويرها بعناية، وصورًا أخرى مُرتبطة بالبنى البشرية، وبيئات محليّة داخليّة مختلفة تُلفت الانتباه إلى حب العيش والحياة. وتُضيف بأن الشاعر قام بهذا المشروع بصفته فناناً مستقلّاً، وأنه كرس وقته لإنجازه مُحققًا بذلك فرحة التعبير الإبداعي، الذي أصبح بمثابة هدية أمل لمجال الأدب الإلكتروني. ويذكر (محمد حبيبي) أن قصيدته الرقمية (غواية المكان) قد وُصفت بأنها “رؤية سنوغرافية صوتاً وصورة”، مُضيفًا أن فريقًا لإحدى الورش المسرحية يفكر في إنجاز تجربته مسرحيّاً، موضحًا سعادته بما ذكره عدد من الفنانين التشكيليين من أن تجربته قريبة من أسلوب الفن المفاهيمي في عدد من لوحاتها.