هل أفسدت رفاهية بعض الحملات المقاصد الأساسية للفريضة؟

فريضة الحج بين الممدوح والمنبوذ .

انتهى موسم حج هذا العام بنجاح كبير ولله الحمد، حيث تضافرت جهود العديد من الجهات الحكومية لتقديم أفضل الخدمات لضيوف الرحمن وتمكينهم من أداء مناسكهم بكل يسر وطمأنينة، وفق تعليمات القيادة الرشيدة أيدها الله. ولوحظ في حج هذا الموسم انتشار حملات الحج المخصصة للموسرين أو ما يعرف بحملات الـ VIP التي بالغ بعض مقدميها في الرفاهية المقدمة لأصحابها، ما أثار جدلًا حولها، حيث رأى البعض أن المبالغة في الرفاهية أبعدت الحج عن مقاصده السامية، وهي التفرغ للعبادة وسط أجواء روحانية يتساوى فيها الجميع، فيما ذهب فريق آخر إلى أن تلك الحملات لا يطلبها سوى فئة قليلة من الموسرين الذين يمتلكون المقدرة المادية لاختيار أفضل الخدمات التي تقدمها حملات الحج، وأنه لا بأس بذلك شريطة الابتعاد عن الخيلاء والمفاخرة والرفاهية الزائدة عن الحد، فخير الأمور أوسطها. وجاء مقال الكاتب د. زياد الدريس، تحت عنوان: «الحج بين المشقة والرفاهية» الذي نشره على منصة X وكان دافعاً لنا لإثارة هذه القضية . الموسرون مطالبون بمعونة المحتاجين تحدث في البدء أ. د. عبدالرحمن محمد القرشي مؤكدًا أن شعارنا في كل مناحي الحياة يجب أن يكون «لا إفراط ولا تفريط» فخير الأمور أوسطها، وقد نهينا عن التبذير والإسراف سواء بهذه المناسبة أو غيرها، مستشهدًا بقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ الأنعام/141، وقوله عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ الإسراء/27. وتابع: «للأسف وصلتنا مقاطع لتبذير وإسراف في المأكل والمشرب مبالغ فيه، أطعمة ومشروبات ومياه بالأطنان ملقية في المخيمات، ويمكن أن تفسد وتصبح غير مناسبة للأكل والشرب خصوصًا في الأجواء الحارة، وهذه كارثة تجارية واقتصادية واجتماعية ونفسية، فمن باب أولى الاقتصاد في كل شيء، وما زاد يتواصل مع الجمعيات المتخصصة مثل (إطعام وحفظ النعمة) لأخذ الفائض الجيد لتوزيعه على المحتاجين والمستحقين، فالتبذير في شعيرة الحج وغيرها سوف يحاسب عليها العبد، فالله الله بترشيد النعمة والمال». وأضاف د. القرشي: «الحج والعمرة مواسم عبادة واعتكاف وتبتل إلى الله بالدعاء وقراءة القرآن الكريم والصدقة والصلاة والصيام وغيرها من الأعمال والأقوال الصالحة المستحبة في هذه المواسم العظيمة، والمشقة غير مستحبة، فالحج لمن استطاع إليه سبيلا كما ورد في القرآن والأحاديث الصحيحة وفي التوجيه النبوي الشريف، ونعم قد يكون للمبالغة في أسعار الحملات دور في أن تصبح ظاهرة خطيرة بحيث يصبح الحج مستحيلًا أو صعبًا على الفقراء والضعفاء والمحتاجين والمعوزين والمساكين، فمن يملك المال اقترح أن يتبرع للجهات الخيرية في بلده وغيرها ممن يعينون الحجاج والمعتمرين لأداء فريضة الحج، بدلًا من الإسراف على نفسه فقط، ويكون له أجر عظيم في معونة الضعاف بما يملكه من خير في تيسير أمور المسلمين الراغبين في الحج ولا يقدرون عليه. وبخصوص الأكل والشرب يمكن وضع كود والتحكم في ذلك باستشارة المتخصصين في التغذية الصحية لوضع الوجبات الغذائية المناسبة صحيًا وغذائيًا، بما يكفي الفرد في يومه وليلته دون إسراف وتبذير.. والله الله في الاقتصاد في الحج وفي جميع أمورنا كلها لأننا سوف نسأل عن مالنا فيم أنفقناه». التزام المملكة بأفضل خدمة لضيوف الرحمن ‏من جانبه، أوضح د. م. أحمد بن عبدالعزيز سندي أن خدمات الحج شهدت خلال المواسم الأخيرة تطورًا ملحوظًا، يعكس التحول نحو نماذج تنظيمية أكثر احترافية ومرونة، تراعي تنوع احتياجات الحجاج، ومن بين هذه التطورات، برزت باقات الرفاهية (VIP) كأحد أشكال تحسين تجربة الحاج، من خلال تقديم خدمات مميزة تشمل السكن المريح، النقل السلس، وخدمات إعاشة ذات جودة عالية. وأكمل: «يأتي هذا التحول كجزء من منظومة تطويرية أشمل تهدف إلى الارتقاء بمستوى الخدمة المقدمة لكافة فئات الحجاج، في إطار تنظيم عصري يحترم روح النسك ويعزز من كفاءة التشغيل في آنٍ واحد. ولما كانت باقات الرفاهية تمثل أحد أوجه الارتقاء بخدمات الحج، فقد ساهمت بشكل مباشر في تحسين الإجراءات التنظيمية ورفع معايير التشغيل بشكل عام، ومن أبرز تلك التحسينات تطوير «كود الإعاشة»، الذي يهدف إلى توحيد معايير تقديم الطعام والشراب في حملات الحج، بما يضمن الجودة والسلامة ويمنع العشوائية أو التفاوت الكبير بين مقدمي الخدمة. هذا التوجه لا يخدم فقط باقات الرفاهية، بل ينعكس أثره على المنظومة ككل، بما في ذلك الحملات ذات التكلفة المتوسطة أو الاقتصادية، من خلال خلق بيئة تنافسية قائمة على الجودة والانضباط. وتأتي هذه التحسينات امتدادًا لجهود المملكة العربية السعودية، بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده حفظهما الله، ومتابعة وزارة الحج والعمرة وجميع الجهات ذات العلاقة، وذلك في تطوير منظومة الحج بشكل شامل ومستدام، بما يواكب تطلعات الحجاج ويرتقي بتجربتهم عامًا بعد عام، وكل ذلك تماشيًا مع الرؤية الطموحة 2030 وبرنامج خدمة ضيوف الرحمن». وزاد: «التحديث المستمر في البنية التحتية، والتحول الرقمي، وتوسيع خيارات الخدمة، وغيرها من الجهود التي لا تعد كلها شواهد حية على التزام المملكة بخدمة ضيوف الرحمن وفق أعلى المعايير. من المهم أيضًا تصحيح المفهوم السائد لدى البعض بأن المشقة شرط لتمام أجر الحج، وأن الرفاهية قد تنقص من الأثر الروحي أو المردود التعبدي، فالحج فريضة تُقام وفق ضوابط شرعية واضحة، والمقصود منها أداء المناسك بإتقان لا افتعال العناء، بل إن التوجيه القرآني واضح في قوله: ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾، وهو أصل شرعي يدعو للتيسير، ويدعم توفير بيئة آمنة للحاج بعيدًا عن المشقة المفرطة أو التعرض للمخاطر. وفي المقابل، لا يعني التيسير الانجراف نحو الإسراف أو المبالغة في مظاهر الرفاهية، التي قد تُفقد الحج معانيه وتبتعد به عن روح التواضع والخشوع، فالاعتدال هو السبيل الأمثل، حيث يُوفَّر للحاج ما يُعينه على أداء نسكه بكرامة وراحة. وفي هذا الإطار، تواصل المملكة العربية السعودية، ممثلة في جميع الوزارات والهيئات والقطاعات المعنية، دورها الريادي في تنظيم شعيرة الحج بما يحقق العدالة والشمولية، ويضمن تقديم خيارات متعددة تناسب مختلف فئات الحجاج من جميع أنحاء العالم. فكما تحرص وزارة الحج أو بعض الجهات المعنية على تطوير باقات الرفاهية لمن يطلبها، فإنها تولي ذات العناية لباقي الفئات، عبر رفع كفاءة الخدمات، وتحسين تجارب الحجاج بمختلف مستوياتهم. ويُعد هذا التوازن أحد مرتكزات النموذج السعودي الفريد في إدارة الحشود والتنظيم الدقيق لشعيرة الحج، بما يعكس التزام المملكة بمسؤوليتها التاريخية تجاه ضيوف الرحمن». وختم سندي حديثه بالقول: «يأتي موسم حج 1446هـ كأحد أبرز النماذج التي تُجسد هذا التوجه، حيث شهد قفزات تنظيمية وخدمية تعكس تطورًا استثنائيًا في تجربة الحاج، وتفتح آفاقًا جديدة لمستقبل الحج ضمن رؤية طموحة تُقدّر التنوع وتُعلي من قيمة التيسير، دون إخلال بجوهر الشعيرة، وبينما تتنوع التجارب وتختلف الباقات، تظل روح الحج واحدة، وتظل المملكة رائدة في خدمة الحجاج جميعًا، برؤية متوازنة، وهمة لا تعرف التراجع». التوازن والعدالة في تقديم الخدمات وأيدت د.شروق بنت شفيق الشلهوب تقديم خدمات مميزة لبعض الحجاج، مشيرة إلى أن حملات الحج VIP أصبحت خيارًا شائعًا خلال السنوات الأخيرة، وأن تقديم خدمات فاخرة للحجاج الذين لديهم قدرة لا بأس به، لأنه لا يعد ترفًا بل طبيعي جدًا مثل توفير تذاكر طيران بدرجة رجال الأعمال، وإقامة في فنادق قريبة من الحرم المكي، ووجبات يومية في بوفيه مفتوح، وسيارات حديثة للتنقل، وهذه الخدمات تهدف إلى راحة الحجاج ورفاهيتهم أثناء أداء مناسك الحج. وتابعت: «من الجوانب الإيجابية لحملات الحج VIP: - توفير خدمات فاخرة ومريحة للحجاج. - وجود فريق متخصص من المرشدين والمسعفين الطبيين. - استخدام سيارات حديثة ومريحة للتنقل. - توفير مساحة واسعة ومريحة في المخيمات. - توفير الوقت للعبادة لأن الأساسيات متوفرة بطريقة متميزة. ولكن نجد أيضًا سلبيات لهذه الحملات من حيث: - الأسعار المرتفعة قد تجعل الحج مقصورًا على الأغنياء فقط. - قد تُشعر بعض الحجاج بالتمييز بين الحجاج أنفسهم وهذا غير مطلوب». وأضافت د. شروق: «من جانب آخر، فإن المشقة ليست ضرورة في الحج، بل يُشجع على التيسير والتسهيل على الحجاج، والرفاهية لا تنقص من أجر الحاج، بل إن الله تعالى يُحب أن يُرى أثر نعمته على عباده. أما كون الأسعار المرتفعة لحج VIP قد تؤثر على مقدمي حملات الحج وتجعل الفريضة مستقبلًا للأغنياء فقط، فهذا قد يؤدي إلى حرمان بعض الفئات من أداء الحج بسبب التكلفة العالية. وفيما يتعلق بوضع نموذج (كود) للأكل في الحج، فأرى أن تنظيم الأكل في الحج أمر مهم، وقد يكون من المفيد وضع نموذج أو كود لضمان جودة الخدمة ورضا الحجاج، ولكن يوجد بعض الأشخاص لديهم أكل معين وهذا الذي يسبب التعب، والخلاصة أن الرفاهية المبالغ فيها في بعض حملات الحج قد تُشعر البعض بعدم التوازن أو التمييز بين الحجاج، لذا يجب أن تُقدم الخدمات بتوازن وعدالة لضمان رضا جميع ضيوف الرحمن». الإخلاص وعدم المباهاة والإسراف ورأى د. عمرو خالد حافظ أن انتشار حملات الحج الـ VIP يعكس تطور الخدمات وتنوع الخيارات أمام الحجاج، وهو أمر طبيعي في عصر أصبح فيه الطلب على الراحة والتنظيم عاليًا، لكن من المهم أن يظل الهدف الأسمى واضحًا: الحج عبادة لا تُقاس برفاهية الوسائل، بل بخشوع القلوب وصدق النية. وأردف قائلًا: «بخصوص ما يعتقده البعض حول المشقة في الحج، فالمشقة لم تُشرع في ذاتها، بل وردت في النصوص على أنها مما يُضاعف به الأجر إن وقعت، لا أنها شرط لقبول الفريضة، فالرفاهية لا تنقص من الأجر ما دامت النية صادقة والعمل مستوفٍ لأركانه وشروطه. من أُتيحت له وسائل الراحة دون إسراف أو كِبر فحجه مقبول بإذن الله تعالى، بشرط الإخلاص، وإذا أصبح الاتجاه العام يسير نحو رفع التكلفة بشكل غير متوازن، فقد تُقصى شريحة واسعة من المسلمين عن أداء الفريضة، وهذا يتعارض مع مقاصد الشريعة التي جعلت الحج فريضة ميسّرة ﴿ِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، لذا، من الضروري أن يبقى هناك تنوّع في الخدمات والأسعار، وأن تحفظ الدولة والمجتمع حق من لا يستطيع الإنفاق الباهظ». وتابع د. حافظ: «فيما يتعلق بفكرة (كود الأكل) قد تكون خطوة مفيدة لتنظيم التغذية وضمان جودة الطعام وتنوعه في بيئة مزدحمة مثل الحج، ولا شك أن وجود معايير واضحة في تقديم الطعام — كالتوازن الغذائي، ومراعاة الثقافات، والاشتراطات الصحية — أمر مهم، لا سيما مع تنوع الجنسيات والأذواق، لكنها تحتاج لتطبيق ذكي يحترم بساطة المناسك دون أن يثقل على الحملات أو الحجاج. أما بخصوص الرفاهية المبالغ فيها في بعض حملات الحج، فهي إذا خرجت عن حدود الحاجة وتحولت إلى مظاهر استعراض أو إسراف فإنها تسيء للمعنى الروحي للحج. الحج رحلة تجرد، تذكّر المسلم بحقيقة المساواة، والافتقار إلى الله، فلا يليق أن يُختزل في تجربة فندقية خمس نجوم على أرضٍ طُلب منا فيها «الإحرام» تواضعًا، والرفاهية المقبولة هي ما يُعين الحاج على أداء نسكه بخشوع، أما ما زاد عن ذلك فقد يكون مدعاة لإعادة النظر». المشقة ليست ضرورة والله يريد بنا اليسر من جهته، قال الأستاذ محمد سعد القرني إن حملات الحج المسماه حملات VIP تأتي لتواكب رغبة فئة من الحجاج وفق رغباتهم وقدراتهم المالية، وتلبية احتياج ملح من قبل فئة ليست بالقليلة من الحجاج، ولا أظن أن هناك موانع شرعية، ولكن كون فريضة الحج عبادة لها مكان محدد سمي من يذهب إليه مسافر وشد الرحال للحج والعزم على السفر للفريضة، فهو على جانب من مشقة السفر تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من وعثاء السفر وكآبة المنظر (السفر قطعة من العذاب) كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه لما يصاحبه من مشقة وتعب وقلة الطعام والشراب والنوم، فالحج غالبًا سفر والحج في ظل خدمات عالية الجودة ليس حرامًا للقادر، ولكن الحاج حين تساوى في لبسه وإحرامه مع غيره من المسلمين فإن التقشف والزهد من القادرين عن بعض الملاذ لفترة قصيرة رغبةً في مزيد الأجر ومواساة للفقراء في الحج هو الأولى في نظري، وهو أسهل وأفضل للتفرغ للعبادة التي هي أساس الحج حتى من الناحية الصحية، فإن كثرة الشبع مجلبة للنوم والخمول المشغل عن العبادة والقراءة والصلاة وذكر الله تعالى، وتقليل الطعام أسهل لحركة التنقل والطواف والسعي والرمي والتنقل بين المناسك والمشاعر، قال عمر رضي الله عنه (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم). أما عن المشقة وضرورتها في الحج أو غيره للمسلم فليست ضرورة والله يمل إذا مل العبد قال تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وقال تعالى (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)، والحج فيه تنوع وحملات متعددة الشرائح، فيها الغالي والمتوسط والأقل سعرًا وفق ضوابط وقدرات وأذواق الحجاج. كما لا يخفى على الجميع أن هناك من يشق على نفسه في عبادته بالجوع الشديد والعطش الشديد والذهاب لأماكن لم تثبت في السنة خاصة في الحج (وقفت هنا وعرفة كلها موقف إلا بطن عُرنه) ومنها حمل الكثير من الأمتعة وصعود جبل الرحمة والتعرض للشمس وإرهاق النفس وإتعابها والمشقة عليها جهلاً وظناً أن ذلك من العبادة، ومن خالف تلك الفئات يرونه على خطأ في حين أنهم هم على خطأ فالمأمول هو التوسط في كل الأمور (فخير الأمور أوسطها). حج البسطاء مكلل باليسر في السياق ذاته، كتب الشيخ صالح الحصيّن رحمه الله والذي كان رئيسًا لشؤون الحرمين والحوار الوطني مقالًا بعنوان (تجربة حاج) نشرته مجلة (الأسرة، العدد ٦٩، ذو الحجة ١٤١٩هـ)، قال فيه رحمه الله: «قال محدثي وهو يقص تجاربه في الحج، لقد جربت الحج الترفي لأكثر من خمس حجج، كنت فيها في أيام منى أحتل لوحدي غرفة تحتوي كل التسهيلات والخدمات التي توجد عادة في فندق جيد، وفي نهار عرفة كنت أحتل خيمة كبيرة تحيط مع زميلاتها بفناء واسع رحيب، وكنت أتنقل بين المشاعر مستخدماً سيارة خاصة فارهة، ولكني مع ذلك كنت أعاني التعب والإرهاق في أداء المناسك كواجبات مفروضة شاقة وعزائي – من مشقة أدائها – ما أرجو من قبول وثواب. واقترح عليّ صديق عزيز أن أجرب الحج اللاترفي، حج البسطاء من الناس – وهم نسبة كبيرة من الحجاج تقدرهم وزارة الحج بأكثر من الثلث – واعداً بأني سوف أمر بتجربة فريدة، وفي سانحة من ميل النفس إلى المغامرة، والملل من الروتين استجبت لاقتراح صديقي، فاستغنيت عن مظاهر من التكلف كنت أراها مهمة للإعداد لممارسة أعمال الحج، واكتفيت من السكن والطعام بما يكتفي به عادةً البسطاء الذين تخلصوا من رق التكلف، ولم أستعمل في تنقلاتي بين المشاعر غير وسيلة نقل واحدة قدمي اللتين كانت إحداهما – بالصدفة – تعاني من جرح حديث العهد. ودهشت للسهولة واليسر اللذين تمت بهما أعمال الحج وكانت أبعد مسافة بين المشاعر المسافة بين حدود عرفة وحدود مزدلفة، وقد قطعتها بدون كلفة في ساعة وعشر دقائق، وبالرغم من أني أخطو نحو السبعين من سني العمر فلم يخطر ببالي أن أشكو من تعب المشي، إذ كنت وأنا أقطع تلك المسافة أرى عن يميني معوقاً يدفع عربته – عربة المعوقين – بساعديه، وعن يساري عاجزين على كرسي ذي عجلات يدفعهما قريبان أو صديقان لهما، وكانت أمامي سيدة باكستانية تحمل طفلها الرضيع على كتفها وتجر وراءها طفلين أكبرهما في الرابعة من العمر، ولا أظن أن هؤلاء هم كل العجزة بين المشاة اجتمعوا بالصدفة حولي، بل كنت على يقين أن أمثالهم كثيرون بين طوفان البشر المشاة المتخففين من أحمالهم، أو الحاملين مثلي حقائب الظهر أو الفرش أو خيمة صغيرة كما يفعل حاج يماني طاعن في السن. كان أمراً مدهشاً أن أحس لأول مرة أن أداء الحج يمكن أن يكون سهلاً ميسراً لا عنت فيه ولا تعقيد، ولكن أكثر من ذلك أن أجرب أحاسيس ومشاعر جديدة، فقد جربت أن أستمتع حقاً بأداء العبادة، لا لأن العبادة تعطيني فقط الأمل في الثواب، بل لأنها بالإضافة إلى ذلك كانت نفسها مصدر متعة، كنت أشعر بالقرب من أخي الإنسان والتعاطف معه وأتمثل عملياً معنى “إنما المؤمنون إخوة “، وأدركت مقاصد للحج من الغريب أني لم أدركها من قبل، ومن هذه المقاصد: ١- رياضة النفس على الصبر والتحرر من عادات الترف والتكلف، وهذا واضح من أن الحج لما فرض – في الإسلام – كان يوجب على الرجل الامتناع عن الطيب وبعض مظاهر الزينة، مكتفياً بالبسيط من اللباس، ضاحياً للشمس مدة السفر من ذي الحليفة – ميقات المدينة – إلى مكة المكرمة، وهي عادة عشرة أيام، ويفرض على المرأة التي كان النقاب والقفاز يحميان نضارة ونعومة يدها أن تخلعهما وأن تضحي للشمس كل هذه المسافة سافرة الوجه بارزة للشمس والكلف والغبرة، ممتنعة عن الطيب ومظاهر أخرى للزينة. وقد وصف الحج بأنه (جهاد) لا قتال فيه ووصف الحجاج بإنهم يأتون ﴿رجالاً وعلى كل ضامر﴾ وإذا كانت الراحلة ضمرت من مشقة السفر ووعثائه فكذلك راكبها. ٢- اجتياز دورة تدريبية في التواضع، فقد حج – أسوتنا – صلى الله عليه وسلم – على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم، وقال: ”اللهم حجاً مبروراً لا رياء فيه ولا سمعة“. والتواضع ليس فقط قيمة أساسية من قيم الإسلام، بل هو مصدر لتوليد وتطوير وتنمية عدد من القيم الإسلامية الأخرى، ونقيض التواضع الكبر. والآيات القرآنية التي وردت فيها مادة (كبر) وما اشتق منها تبلغ اثنتين وأربعين آية، وكلها تبين أن الكبر سبب الضلال أو نتيجته أو سمة الضالين أو وصفاً سببياً لاستحقاق العقاب الدنيوي والأخروي، والمتواضع قادر على تحقيق الوسطية (سمة الإسلام) وبالعكس فلا ترى غالياً أو متطرفاً في أحد الجانبين إلا وفي صدره كبر ما هو ببالغه. ٣- وجود فرصة للمسلم لكي يرى الحياة على حقيقتها، فتنكشف له حقائق الحياة كما سوف تتكشف له عند الموت، فيعلم أن كثيراً من الأمور التي اعتاد أن يراها مهمة، أو ثمينة، ولا يمكن الاستغناء عنها غير مهمة ولا قيمة لها، ويمكن الاستغناء عنها، ويرى الفروق التي أوجدها الناس بين الناس فروق اصطناعية وزائفة ولا وزن لها في ميزان الله، فإذا أجبرته ظروف الحياة على مراعاة هذه الفروق وانعكست على جوارحه الظاهرة ولم يتأثر بها قلبه الذي يبقى شاهداً على الوحدانية، موقناً بأن الحياة الدنيا متاع الغرور».