إياك أعني واسمعي يا جارة!

ليس كل ما نريد قوله يقال مباشرة. أحياناً نكتب لنوجه الكلام إلى شخص واحد، حتى لو بدا الكلام عاماً. «إياك أعني واسمعي يا جارة» كلمة واحدة قد تكفي لو أُحسن فهمها. وأنا لا أرد على كل استفزاز، وكثيرون مثلي لا يفعلون ذلك، ليس لأننا بلا شعور ولا لأننا غافلون، بل لأننا نعرف أن الجدال أحياناً لا يليق. فنفضل الصمت حين يكون الكلام خسارة. تعلمت مع الوقت أن الرد على كل كلمة استجابة فورية لا تليق بمن أدرك أن الوقار ليس صمتاً ضعيفاً، بل اختياراً نابعاً من ثقة كاملة بالنفس. لا تحتاج أن ترفع صوتك حين تكون كلمتك داخلك عالية بما يكفي. الجهل أنواع، لكن أقبحها ما يخرج من بين شفاه متعلمة. أولئك الذين يرفعون راية الثقافة، ويظنون أن القراءة تعطيهم حق السخرية من غيرهم. هؤلاء ليسوا جهلة، بل سفهاء ثقافة. يحفظون شيئاً من الكتب، ويهدرون كل معانيها. ما أكثرهم في زمن «الرأي بصوت مرتفع»، وما أقل الحلماء. هؤلاء هم الامتحان الحقيقي لصاحب النفس الهادئة؛ فإن كانت ثقتك بنفسك رقيقة، سيستدرجونك. وإن كانت عميقة الجذور، ستجدك ساكناً، مكتفياً بأنك تعرف من أنت، ولست في حاجة إلى تبرير أو تفسير. عندما وقف يوسف عليه السلام أمام الملك وقال: «اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم» لم يكن يمدح نفسه ليعجب الناس، بل كان يقدم نفسه للحق. الثقة التي لا تنبع من وعيٍ عميق، تتحول إلى صخب، وغرور، وربما سقوط. أما الثقة التي تولد من حلم، فهي التي تربي صاحبها على الصمت، حين يكون الصمت دليل القوة. لا يغرك من يرد على كل شاردة، فبعض الردود لا تعبر إلا عن فراغٍ في الداخل، وخوفٍ من أن يساء فهمنا. لكنك حين تعرف نفسك، وتدرك قيمتها، لن تخاف من سوء الظن. ستتجاوزه كما يتجاوز الغيم طول المسافات. والكلام كثير، لكن يكفي أن تدرك أن بعض الحروب لا تخاض، لأنها ببساطة… ليست في مستواك.