
منذ صباها وهي تسجل في دفترها المدرسي قصائد تكتبها و تحتفظ بها لنفسها ، وكلما مرت السنون ازداد عدد الدفاتر صارت تكبر يوماً بعد يوم وتشارك بقصائدها خلال النشاطات المدرسية فتحظى بالإعجاب والتشجيع ، أكملت الثانوية وتزوجت، ثم صارت أمّاً ، وما تزال تحمل دفاتر شعرها كما تحمل العروس حليها .. مها التي نشأت في بيئة مثقفة توارثت فيها القصيد أباً عن جد أفصحت مؤخراً عن وليدها الشعري الأول ( هنا أنبثق ) الصادر هذا العام عن دار أوراق للنشر والتوزيع في مصر . ومن مكة طارت إليَّ نسخة منه مع اعتذار الشاعرة عن بعض الهنات التي قالت عنها إنّها لا تفوت على القارئ اللبيب . حسناً.. إذن هو الديوان الأول الذي يشكل الإنطلاقة الأولى ، وما بعده ثمّة مسيرة علنية شائكة وهموم وعذابات التواصل والاستمرار لتمكين التجربة وتعميق جذورها في أرض الشعر في بلد يضجُّ بكبار الشعراء . ما الذي أرادته مها من الولوج في هذا المضمار ؟ تقول مها : “أنا وشعري وعشق الحقِّ بودقة تمورُ بالفكرِ والأشجانِ والطهرِ .. ما زلتُ أؤمنُ أنّي ما رزقتُ به إلّا لأمرٍ ، وقد يُسِّرتُ لهذا الأمرِ “ . لقد أفصحت قصائد هذا الديوان عن موهبة تعزّزها سليقة وثراء لغوي جعل القصائد تنساب من بين جوانحها انسياباُ لطيفاً حاملاً المعاني السامية التي تعبّر عن ثقافتها ووعيها المجتمعي والأخلاقي . تقول في قصيدة ( ضحكة الفساتق ) : “أنا إن ضقتُ في يومي ولم يمرق كما أهوى بحثتُ بكلِّ ما حولي عن الإلهام والتقوى أفتشُ في خزاناتي عن البسكوت والحلوى وأصنعُ قهوتي وحدي وأكسرُ شوكة الشكوى ... “ وفي أكثر من قصيدة عبّرت الشاعرة مها الشريف الحارث عن خلجاتها الإنسانية ، وعن أمومتها ، وعن الجوانب القيمية في الحياة .. تقول في قصيدة ( نعيمٌ أن أرضى ) : “أحبُّ البحرَ لكنّي أحاذرُ موجه العالي أخافُ الفقد ما أقساهُ فقدَ مميّزٍ غالي أخافُ تساقط الأحباب إن حرّكتُ غربالي” وفي الديوان قصائدُ نثرت خلالها الحكمة، كما عبّرت عن إيمانها الذي ذكّرني برابعة العدوية .. تقــول فـــي قصيــدة ( سويعات الأصيل ) : “ إنّما الدنيا سويعاتُ أصيلٍ ماضياتٍ بالورى نحو الغروب وسفينُ العمرِ فيها حائرٌ بين شرقٍ وشمالٍ وجنوب ...” وها هي الشاعرة مها الشريف الحارث تنبثق كنجمة في سماء الأدب الرحيبة ممتلئة بالأمل وحب الشعر الذي رافقها منذ صباها .. وما يثري تجربتها اهتمامُها بقراءة الأدبين العربي و العالمي وحضورٌ جليّ في موقع ( شاعرات الأسيسكو ) الذي أنشأته الشاعرة الكبيرة روضة الحاج . إنّ ما يجعلني أتفاءل بمستقبلها الشعري تواضعها الجمّ ورغبتها الصادقة في أن تنهل من المعارف النقدية ما يعزّز قدرتها على بناء القصيدة ويحميها من الزلل . وها هي تنطلق بجدارة لتذكّرني ببداياتي الأولى وكيف أخذ بيدي كبار الشعراء والنقاد ، وما أن نشرت كلٌّ من مجلة الأقلام ومجلة الطليعة الأدبية _في أوائل السبعينات _ بعضَ قصائدي حتى فوجئتُ بمقال مهمّ للشاعر الكبير ســامـي مهدي تحت عنوان ( إنّهم يبزغون ) وقد ذكر اسمي مع مجموعة من الشعراء الشباب كنا حينها في بداية مشوارنا الأدبي ، وكان ذلك المقال بمثابة اعتراف ٍ بموهبتنا الشعرية وتحفيز ٍ لخطواتنا الصحيحة في مسيرة الإبداع ، فانطلقنا بثقة وثبات حتى أصبحنا من شعراء العراق المعروفين . وها أنا أبارك للشاعرة مها ديوانها الأول ، وأدعو الأدباء والنقاد الكبار أن يأخذوا بيد كلّ من يملك الموهبة و الشجاعة لدخول ميدان الشعر ، وليتذكروا مثلي بداياتهم ودعم الآخرين لهم .