في ديوان ( مجازفة العارف ) للشاعر محمد إبراهيم يعقوب ..

مَحوٌ للزمن بين الذات والعالم .

من حكمة في الناي مال بيَ الغموضُ العاطفيُّ إلى التّأمل ، مرتين ، أنا المعتَّقُ في كؤوس الأرض أقرأُ ، مطمئناً ، باسم مَنْ مرّوا خفافاً ،في كتاب الرمل،تاريخَ البلاد من الخليج إلى شواطئ في حِمَى السَّراة أدوِّنُ اللغة العصيّة فوقَ جدران البيوت الساحليّة مولعاً بالبحر والسفن البعيدة والجنوب ولا أُلامُ ! صدر ديوان (مجازفة العارف) عن تشكيل للنشر والتوزيع في العام ٢٠٢٢ م وقد رُشّح الديوان ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها السابعة عشرة للعام ٢٠٢٣ / ٢٠٢٢ م وقد جاء الديوان بعدما حاز الشاعر محمد إبراهيم يعقوب لقب شاعر عكاظ ، فاحتفى الشاعر القدير بالشعر ولا شيء غير الشعر الحقيقي ،ولذلك جاءت النصوص بعد تجارب عديدة ومتنوعة وبعد اعتناء وتمحيص فكانت القصائد أكثر تأنياً وأشد ترفقاً وأهدأ في معايشاتها للفكرة والكلمة ،وارتقت المجموعات الثلاث في تطلعاتها حتى غدت عنواناً للشعر الحقيقي وأضحى الديوان بمجموعاته الثلاث مرآة تجلِّي روح الشاعر وإخلاصه لفنه الشعري،وحينما نقول المجموعات النصية فالقصد منها أنَّ الديوان يتجزَّأ إلى ثلاث مجموعات وكل مجموعة مستقلة في مداخلاتها الشعرية،فالمجموعة الأولى (قلق إنساني ) وهي اشتباكٌ شعري بين النص والظرف الخارجي للعالم والمجموعة الثانية ( فناء طوعي) وهي تمثل انفتاح النص تجاه الآخر المخاطب والمجموعة الثالثة ( انكشافٌ ماثل ) وهي مواجهات العالم الخارجي تجاه الذات النصية،والجامع المشترك في هذه المجموعات الثلاث المكونة للديوان أنها احتفت بالنص الشعري الحقيقي بعيداً عن المخاضات التنافسية المرهقة إثباتاً للجدارة الشعرية الفنية فجاءت النصوص في رداء من الاحترافية المصاحبة للمطالب الإبداعية وقاصدة الشعر لذاته وحسب دونما التفات للعوامل الخارجية ودونما مراعاة للظرف الاجتماعي المحيط وتلبية متطلباته الخاصة وجاء النص بعيداً عن حلبات التنافس في ساحات الركض الشعري للجوائز الشعرية،لقد بذل الشاعر محمد إبراهيم يعقوب في هذا الديوان خالص موهبته واعتنى به ولم يبخل بأي جهد في سبيل انضاجه واستثمار تجويده وجعله متفرداً بل وفريداً حتى على مستوى التجربة الشعرية الخاصة بالشاعر نفسه، ونحن كمتلقين نصدّق الشاعر في مقولته الرائعة : ( أنا لا أنافسُ إلا الشاعر محمد إبراهيم يعقوب ) إنه في تنافس مع ذاته الشعرية في الصعود في مدارج مفاتن الشعر الحقيقي حتى غدا الشاعر في يومه الآن أرحب متعة للقراءة من أمسه السابق وسيكون غده المنظور أجمل زهواً وأعلى جودة في رؤاه،ومن هذه المنافسات مع الذات الشعرية الشخصية أمسينا في وعي صريح وفي تفهّمٍ ماتع حيث كتب في الإهداء للديوان : ( إلى محمد . . أما اكتفيتَ من الأوهام واللغة ؟! محمد ، ، ) . ولنا أن نقول باطمئنان : لقد وقعت أعيننا على المنطقة المفضلة التي دأب الشاعر الاشتغال فيها والتي تتجلَّى فيها رؤية الشاعر لذاته وللآخر وللعالم الخارجي ،وإننا وجدنا صوت الشاعر في الديوان جلياً في تفرداته وافتراقه حتى عن سائر الدواوين السابقة . مثل أن لا تردّ إلى امرأة قلبها سالماً تحتسي عمرها رشفةً رشفةً ثم ترمي بها للجنونْ مثل أن تستلذّ بهذي القصيدة لم تُنهها عنوةً والكلامُ انتهاكُ المسافة أخذُ الوجودِ على محمل الجدّ توقٌ قديمٌ إلى جنةٍ ، أهلها ظالمون . فالحضور الفاعل للعالم الخارجي وللآخر مازال يمور في النصوص ،وهذا استدلالٌ على حيوية التفاعل بين الذات النصية والآخر والعالم المحيط ،ومازال العالم الخارجي يأخذ مساحاته النصية في فكر وتأملات الذات،ويبقى العالم الخارجي يمارس ضغوطاته على النص فتظهر في شكل حالات شعرية بمظاهر إيجابية وأحيانا سلبية،فالديوان يأخذنا أحياناً إلى الفكرة الأزلية من حيث التنافسية القائمة بين عالم المبادئ والقيم والمثل وما يضادها مما هو موجود في عالمنا الواقعي من نتوء وتقصير ونقص يتعارض مع ما ينشده الإنسان المثالي من عالم تسوده المحبة والخير والسلام والأمان ورغد العيش . و جازفتُ . . حتى ملَّ مَنْ كان يدّعي انطفائي ولم أُطفئ دعاوى تواضعي أعاقبُ أياماً تخلّت بمحوها وأبدأُ من نص التخلّي شرائعي ومن خلال مقدرة الشاعر يتحرك الجو المحيط في العالم الخارجي متحولاً إلى نصوص مسطرة يتداخل فيها النص مع فضاءات لا مرئية بعيداً عن المنطق والعقلانية والإحساس المباشر وبعيداً عن الشعور الظاهري فتنكشف لنا مسالك من فضاءات عرفانية متوسعة تحيط بنا جميعاً دونما استشعار منا ودونما انتباه ،ومن هنا تتقافز مغازل الشاعر في ابتداء نسيجه اللغوي اللامتناهي عابرة دروباً من البقاع القريبة من مخيلتنا والدانية من نفوسنا،و ستعلو تلك الرؤى متجاسرة في الملكوت السماوي مدونة ما اصطادته أعين البصيرة و ما قنصته حواس الترقب من ذلك الفردوس لتسمعنا الأسرار العلوية ولتدهشنا بغموضها البديع في تشكيلاتها النصية الملأي بفخامتها والمترعة بخيلائها وهي تحتفي ببذخها،وكل ذلك ما كان ليثمر دونما مجازفات العارفين الذين تجاسروا وغامروا فكانوا أوائل السالكين في تلك المشقات التي لا تتقبلها النفوس إلا مكرهة وطامحة أنها ستفلح في إدراكاتها للحقائق مرة بعد أخرى ولن ترضى بالقعود مع القانعين الخاملين . يا شيخ أنهكنا الطريق ومسَّ أهل الحبّ قرحُ تُهنا ، ونعرف . . غير أنَّ العالم الروحيّ نزحُ يا شيخ قل شيئاً لندرك ، جُلُّ هذي النار قدحُ يا شيخ ما بال الكلام يخوننا والحبُّ نفحُ جذب الستور وقال لي : في الحبّ لا لغة تصحُّ ! العرفان النصي الذي تنشده القصائد ليس هو المشهور عند بعض المتصوفة من التوحد بين العارف والمعروف بين العابد والمعبود،حتماً ليس ذلك،وإنما المنشود هنا هو تلك النظرات التأملية من العارفين في ذواتنا البشرية وفي الآخر وفي العالم الخارجي وصولاً إلى يقين محتَّم وثباتٍ قارّ بعدما تلاعبت بنا ظنون الأيام وتناهبتنا شكوك أحوالنا فيما يحدث في عالمنا ومحيطنا من قبح وكوارث، كلُّ ذلك يتطلب محواً للمسافة الزمنية الفاصلة بين النص وسير العارفين السابقين وصولاً إلى الالتحام أو حتى التوحد المجازي بين القارئ والمقروء مثل : ( قال لي : أنتَ معنى الكون كله) وهو للنفّريّ ، وصُدّر به عتبة خارجية لأحد النصوص . النص الشعري هنا له مقدرته الخاصة في انتهاك المسافات بين الذاتي والموضوعي أو بين الخاص والعام،فالنص قد أخذ على عاتقه تقليص المساحات بين المجالين،وهذا نتيجة طبيعية للمعايشات الدائمة لما يدور في عوالمنا الداخلية الصغيرة والمحدودة والبيئة المحيطة بنا الشاملة باحتوائها لكل نشاطنا،والإنسان في عصرنا أصبح مشاركاً ومساهماً ومتداخلاً في كل صغيرة وكبيرة تحدث في عالمنا ويكون في الأدنى له موقف بأي صورة من الأشكال فيما يحصل في العالم، وما يحدث إما يسعدنا وإما يحزننا،فنحن جزءٌ من أجزاء العالم المتفاعل والعالم الخارجي يتكون منا كذلك،لقد ضمرت المسافات بين الداخلي الذاتي وبين الخارج الموضوعي،والكتابة الشعرية تأتي من باب ضخ إحساسنا في العالم ومن باب إسماع صوتنا الفردي للمجموع الكلي،فقط الفرد المتصف بالوعي الذاتي الإنساني القادر على التواصل الفني مع المجتمع هو المقتدر على التعبير الفني عن العالم،فالكتابة هنا همٌّ داخلي حقيقي يلامس حياتنا عن طريق النص المتداخل في شؤون حياتنا جميعاً بوعي من الشاعرية المقتدرة والنص بدوره يمتلك شعوراً مخلصا وصادقاً يمنحنا من فيوضه الخاصة إمتاعاً لحياتنا،والنص يجلي الحياة المعيشة،ولعل في ذلك ما يذهب شقاوات النفوس وغبشها ويؤصل البراءة والصفاء والنماء .