في غياب حواضن الإبداع: «ويل للشجي من الخلي».

نشرت مجلة اليمامة الغرّاء في عددها الصادر بتاريخ 4 فبراير عام 2021م مقالًا ضافيًا تحت عنوان «بابا طاهر من الروضة إلى مستشفى المجانين»، يستعرض فيه الكاتب لمحات من حياة الأديب والشاعر المكِّيِّ الراحل طاهر زمخشري رحمه الله تعالى. موضِحًا أن المقال مُقْتبسٌ من مقال سبق نشْرُهٌ في الجريدة الإلكترونية (قِبْلة الدُّنْيا) بتاريخ 29 نوفمبر 2020م تحت عنوان «قصة مجلة الروضة التي أدْخلتْ مؤسِّسها مستشفى المجانين» .. والقصة في حقيقتها تستعرض ما تعرّض له الأستاذ طاهر زمخشري من إحباط شديد بعد أن انهارت آماله في الارتقاء بالمجتمع عبر قولبة وحداته الأساسية، وهُم الأطفال، وصياغتهم ليكونوا طلائع ذلك الارتقاء عبر الثقافة .. وتلكم ـ لعمر الله ـ هي الفلسفة التي ترى أن التغيير يبدأ من القاعدة وليس من القمة. فانهمك الرجل بحماس شديد، ناذرًا نفسه لتحقيق ذلك مقتحمًا الصعاب وممتطيًا صهوة الإقدام، متجاوزًا كل التحديات، في سبيل تقديم كل ما من شأنه العناية بالطفل فكريًّا، مسخِّرًا لذلك أدوات ذلك العصر من برامج إذاعية ومطبوعات ثقافية .. ولكن .. ولكن الحاصنة لم تكن رؤومًا .. فقد وجد الرجل المقدام نفسه وحيدًا في الميدان، مُنْهكًا بدنيًّا، ومُسْتنْزفًا ماليًّا، ومنسحِقًا معنويًّا، حتى انتهى به الأمر في أحد عنابر مستشفى الأمراض النفسية بالطائف، وهناك تكالبت علبه الحاضنة بسوء تشخيص خلط بين الانهيار العصبي والجنون القراح .. بل إنه قد مُورِس عليه هناك ما يُعرفُ حاليًّا بالطب الدفاعي في قاموس الأخلاقيات الطبية، وذلكم هو الذي يقع فيه الطبيب النفسي عندما يتخذ قراراته الطبية لحماية نفسه قبل مصلحة المريض .. إذ بعد أن مكث في ذلك المستشفى من الزمن ما شعر بعده أن حالته تحسنت، وأبلغ الطبيب المعالج بذلك، أعاده الطبيب إلى العنبر قائلًا له: «كلهم يقولون ذلك» .. يعني المرضى. ولا أحسب أنني ـ عزيزي القارئ ـ سوف أستطيع في هذه العجالة تحليل أسباب خذلان الحاضنة للأديب المكلوم في مهجته، والمتهم في عقليّته .. ولكني سوف أترك لك تقدير ما إذا كان ذلك نتيجةً لعدم إدراك المجتمع لأهمية ما قام به الرجل من عمل؟ أم لعدم مقدرة الرجل على إيصال الرسالة لذلك المجتمع بالطريقة المناسبة؟ أم لطغيان الملهيات الأخرى على جلائل الأعمال وعلوِّ الهِمم؟ وبينما تقوم بحل تلك الأحجية، دعني ـ عزيزي القارئ ـ أستغل الوقت لكي استعرض معك حالة معاصرة مشابهة لها .. لعلّنا نستطيع بالقياس تشخيص العوار. إذا كان المجتمع هو الحاضنة التي غدت جافية بعد أن كانت رؤومًا فإنه يستحق بكل جدارة صفة «الخليّ» الواردة في عنوان مقالي هذا، والزمخشري هو «الشجيّ». الحالة المعاصرة تتمثل في شخص رأى ما تمطره أغلب القنوات التلفزيونية الفضائية من إسفاف تشمئز منه الفطرة السليمة، بل وتأباه النفس القويمة، ولا تُقِرُّه شريعة وأخلاق المجتمع، فنذر نفسه لمحاولة ملء هذا الفراغ المعرفي بما يفيد المجتمع، وذلك في مجال اختصاصه الذي بات يُعرف بعلم «الأخلاقيات الطبية» .. وشرع في إعداد مادة علمية تُقدّم للمجتمع على شكل حلقات تلفزيونية تحت عنوان «الأخلاقيات الطبية بين مقاصد الشريعة ومقتضيات المهنة»، تتناول كل حلقة منها موضوعًا مما يطرأ في مجال الرعاية الصحية والبحوث البيولوجية من إشكاليات دينية وقانونية واجتماعية وأخلاقية، واصفًا للإشكالية قيد النظر، ومستعرضًا لأثرها الاجتماعي والقانوني والديني، ومشيرًا بشكل خاص إلى موقف الشريعة الإسلامية منها. وفي كل حلقة يستضيف من أهل الاختصاص من لهم علاقة بموضوعها من أطباء وعلماء شريعة وقانون واجتماع، وكذلك المرضى وأهليهم. وتم إنتاج الحلقة الأولى وتسجيل الملكية الفكرية لها وأصبح المشروع جاهزًا للانطلاق، منذ الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاثنين 16 نوفمبر 2015م، ولله الحمد. ومن المؤكد ـ عزيزي القارئ ـ أنك استطعت تخمين ماذا حصل. نعم .. إن تخمينك هو عين الصواب .. لم تطلب أيٌّ من القنوات التلفزيونية عرض الحلقة الجاهزة منذ ذلك التاريخ. هل الحاضنة هنا أيضًا أصبحت جافية، واستحقت بذلك صفة «الخليّ» ..؟ وعليه فالكشميري هو «الشجيّ». «ويْلٌ للشّجِيِّ من الخليِّ» والله المستعان ..