عن الاشياء التي تبدأ مرتين: الإبداع بين التوهم والتزييف

في احدى صيفيات الطائف اللطيفة، ومع انطلاقة سوق عكاظ ٢٠١٨، استضافت جامعة الطائف حينها ندوة ثقافية لإطلاق «الخيال الممكن»، وهو عنوان السيرة «التنموية» الذاتية للأمير سلطان بن سلمان رئيس هيئة السياحة والتراث العمراني حينها. وكانت استضافة الجامعة لهذا الحدث جزءاً من خطتها الاستراتيجية لاستعادة الثقافة إلى حياض الجامعة، وتفعيل النشاط الثقافي الحر ضمن مهامها ووظائفها الرئيسة. وكان احتفاء الضيوف بالكتاب يتوقف طويلاً عند عنوانه المميز: كيف تنتقل الأفكار من عالم الحلم إلى حيز التطبيق؟ وكيف تتجسد الرؤية في مشروعات حقيقية تؤثر في الناس والمؤسسات؟ وكانت الإجابة واضحة، ومتسلسلة ومتماسكة في ثنايا الكتاب: الهمة العالية، والرؤية السديدة، وفرق العمل المتميزة التي تعرف طريقها لتجاوز التحديات و»تمكين» الخيال وتحقيقه. وقد ذكرني بـهذا «الخيال الممكن» مشاهد نقيضة أخرى تستدعي التأمل والنقد. فعندما تتعثر بعض المؤسسات في مفاجآت الفراغ الإدراي، وتلجأ مجالس الإدارات أحياناً إلى بعض الحلول المؤقتة على مستوى القيادات، لتتحول لاحقاً بحكم تزاحم الأعمال وراحة العادة وتخوف التغيير إلى حلول دائمة، هنا تبرز أحيانا طرق أخرى مختلفة من التعامل مع الإبداع توهماً وتزييفاً وقتلاً. أما التوهم فتقوده في بعض المؤسسات كفاءات ذكية وطموحة، ينقصها الاطلاع والفهم لتاريخ المؤسسات التي تولوا قيادتها، فهي لا تعلم الكثير أو القليل عن الأعمال السابقة، أو الخطط الاستراتيجية المنجزة، وقصص النجاح (والفشل كذلك) التي سطرتها المؤسسة. ولأجل الثقة المفرطة، تراهم لا يضيعون أوقاتهم في السؤال والبناء على ما سبق، ويعيدون طرح نفس الحلول والمشاريع، وأحياناً بنفس العناوين والأسماء، في مشهد يشبه كثيراً إعادة عرض مسلسل قديم، ولكن بجودة تصوير أفضل. ومع ذلك، فإن قلب المؤسسات يتسع (لأجل الظاهر من حسن النية) لتقبل إبداع قيادتها المتوهم، خصوصاً أن إعادة الرحلة على نفس الدروب السابقة أسهل وآمن. ويأتي التزييف كممارسة من نوع آخر، لا تقوم على الجهل ولكن على التحايل. فعلى الرغم من ثقة بعضهم أن الذاكرة المؤسسية -وإن سايرت- لكنها تدرك طبيعة التكرار وحقيقة التغيير، لذا فإنها يعمدون إلى تكتيكات مختلفة: تجميد المبادرات القائمة لفترة طويلة أو قصيرة، ثم إعادة تفعيلها واحدة بعد أخرى بعناوين جديدة، ويافطات لامعة، ولكن مع المحافظة التامة على جوهر الموضوع، وعدم المساس بأركانه، بعد التخلص - طبعاً- من رواد المبادرات السابقين، أو تهميشهم ليشاركوا بهدوء في حفلات إعادة التدشين لمبادرات «جديدة» يتم إطلاقها للمرة الثانية!! أما قتل الإبداع ونحره على باب المؤسسة، فهو نمط قديم جديد، ظاهره ثوري تغييري، وباطنه رجعي تقليدي، يتميز ممارسوه من هوامير الإدارة العميقة بالجمع بين: الردة العملية عن كل محاولة للتطوير في العمل المؤسسي، مع التأكيد في كل مناسبة على رسالتهم في التجديد والإبداع. وعلى عكس زملائهم من المزيفين، فحركتهم سريعة ومشاهدهم استعراضية، وضجيج الهدم للمبادرات السابقة يصم الآذان في دهاليز المؤسسة، حيث يحال روادها إلى اللجان، ويركن خبراؤها في زوايا مكاتب المستشارين. ثم تبدأ عملية العودة إلى الوراء بخطوات عشوائية، أسكرتها نشوة الانتصارات السريعة (quick wins) التي حققتها المؤسسة في أول مائة يوم للإدارة العجوز المتصابية. وأختم بالزعم، لمن تحملوا مسؤولياتهم بكفاءة وأمانة، وأدوا واجباتهم بإبداع وتميز، وأكملوا بثقة وتقدير ما سبقهم من مبادرات ومشاريع، دون مواربة او مزايدة، وبلا تطلع لتصفيق او خشية من مقارنة، أزعم لهم بكل صادق أمل، أن الذاكرة المؤسسية - وإن تواطأت أحياناً مع النسيان، تظل في نهاية المطاف أقوى مما يُظن، وأن للتاريخ أدواته في تقويم الغث من السمين، وأنه - وإن تأخر- لكنه يميز بوضوح بين من صنع الفرق، ومن أحدث الضجيج، وأن قلوب الناس قبل عقولهم أصعب من أن تعيش الوهم طويلا، أو تتقبل التزييف، أو تغفر للقتلة. وتوضيح أخير لا يعتبر اعتذاراً بأي شكل من الأشكال- لمن قرأ في المقالة إشارة إليه أو تعريضاً به، أن ليست هذه مسؤولية الكاتب، ولكنها مسؤوليته الشخصية أعانه الله على التعايش معها.