قراءة في قصيدتي الشاعرين حسن الزهراني وصالح جريبيع الزهراني..
مساجلة شعرية و وثيقة أدبية تجدّد العهد بتليد من طريف الشعر.
خطابان شعريّان يلخصان تجربة المعلم المربي و المسؤول الإداري المسؤول، تجربة شعرية فريدة يتقمّص فيها الشاعر شخصيّة المدير المسؤول في المؤسسة التعليميّة التربويّة في ردّه على قصيدة المعلم الموجِّه التي يتقدم فيها بالاستقالة بعد أن أفنى زهرة شبابه في خدمة العلم و التعليم . الخطاب الشعريّ الأول للشاعر حسن الزهراني ، جاء بلا عنوان في شكل بوْح وجدانيٍّ ومذكّرات عفويّة منثالةً على لسان الشاعر بعفويّة وحرارة معبّرة عن خواطر متدفِّقة في موقف وداعيٍّ حارٍّ يختزل مجاهدة المعلم الذي نذر نفسه لخدمة أجيال من أبناء شعبه وأُمّته : في القصيدة الأولى للشاعر حسن الزهراني قدم فيها استقالته بطريقة فريدة شعراً لخّص من خلالها تجربته التربويّة والوجدانيّة بما ينسجم مع طبيعته الشفّافة وحساسيته الفائقة وذوقه الأنيق مستهلّاً لها بعناصر الرحلة التعليميّة التي أمضاها زمناً (ثلاثون عاما) بما انطوت عليه من معاناةعبّر عنها بصياغة مجازيّة بالغة الدلالة (أنفاس الثواني تعدّني) مكابدة و حمولة بيانيّة مُثقلة بالمنجزات ؛ وهل أدلُّ من القمح على ثراء الحصاد ؛ خصوصاً ، وقد اختار لها مفردةً قرآنيّةً ؛ لها ذاكرتها الحميمة و معناها البعيد(سغب القرى) مستلهماً الآية الكريمة (إطعام في يوم ذي مسغبة) تلك المفردة التي توميء إلى شدّة الحاجة للطعام (وأومأ فيها إلى قُرانا التي كانت تتوق فيهاإلى العلم) في تلك الحقبة التي أدّى فيها المعلم واجبه و أفنى حياته ، ليس هذا فحسب ، بل إن اللافت في هذه القصيدة استثمار كلّ رموز النور والخصب و الماء و الفن والخيال في تشكيل الصّوَر الفنية كما في عبارة لا (نهى الشّمس ) التي جمع فيها بين العقل والكشف في بنية حيويّة قائمة على التشخيص؛ ليس هذا فحسب ؛ بل جعل من هذه الصورة الفريدة التي تلتحم في نخاع الحياة ؛ فكانت مدعاة للتأمّل بما انطوت عليه من مجازٍ بعيد ، وقرنت ذلك إلى عنصر الموسيقى الذي ينعش الروح (الكمانات) وقوام الوجود الإنساني الذي يبقيه حياً ، (الشهيق و الزفير) في إضمامة من الثنائياّت التي تتماثل و تتناقض (الآلام و الوجع و الأنواء والغيوم والآمال و الكمانات و العشق والعطر و المصباح و اليقين و الخيال والذرا ) إلى آخر هذه المنظومات اللفظيّة التي تفنّن الشاعر في انتقائها و صياغتها وحشدها في إيقاع منتظم عبر تفاعيل البحر الطويل المنساب في تدفّقٍ وتسلسل ؛ فنحن أمام بحر متلاطم يموج في وجدان الشاعر في لحظة فاصلة في حياته يستجمع فيها البحر و الشمس والغيم والمطر و الزرع ؛ وكلها تحمل معنى النمو والخصب و الاضاءة و الحياة وعناصر الوجود والكون في حراك دؤوب مابين صمتٍ وجهرٍ وإيقاع هاديء وآخر صاخب ، وقد عمد الشاعر إلى المواءمة بين العناصر كلّها في لغة مجازيّة رفيعة، قريبة المتناول بعيدة الآفاق ،سامقة الذرى ؛ في تفاعلٍ رهيف بين الكونيات الهائلة والأرواح المتعطشة والعقل المفكر و الشعلة المضيئة ، حشد متكاثر يفضي إلى خصوبة مُترعة هي حصاد سنين من العمل الشاقّ و الاستثمار في الألباب و النهى : ثلاثون مصباحي يقيني و دفتري خيال فسيح فوق ما تحلم الذرا ثلاثون تصطف الوجوه حمائماً بذاكرتي تتلو هديلا مبشرا يراعي عصا موسى وجنباي نوره وفي كفي البيضاء ما يبهج السرى استلهام قصة موسى عليه السلام من القرآن الكريم ، وماتوحي به عصاه التي هي أداته التي يستثمرها ليقضي بها حاجته و لمآربه فهي علامة دالّة و إشارة إلى رسالة المعلم ؛ وكذلك النار التي أخذ منها عليه السلام قبسا (لعلي آتيكم منها بقبس) توظيف في سياقه المناسب يثري الدلالة و يخصب المعنى، واستثمار البياض الذي ورد في سياق قصة النبي موسى عليه السلام (بيضاء من غير سوء) استلهام يضيء الرؤيا ويعزّز جماليات الشعر؛ وفي تكرار العدد (ثلاثون) تأكيد على طول مدة المعاناة و الصبر عليها، وتستعرض فيه الذاكرة على شاشة العمر براءة الطفولة (الحمائم) وهديل السلام و الأمان وفي كلمة تتلو التي تضيء الرؤية إشارة قدسية،وتكتظّ القصيدة بالرموز تغرسها يراعه و ترعاها ملكته وترويها عواطفه : النخلة والنهر والصباح والمسك وقبلها الشمس والقمح والعزف والنوء و الغيمة و المصباح و الدفتر و الذرا والنور و البياض و العهد ، هذه الكلمات علامات و صور ؛ بل رموز تتفتق عن أنبل المعاني وأجملها فيما يتعلق بالتعليم و التربية ؛ فيض من الدلالات و المعاني. الغراس بما يوحي به من مستقبل يفيض بالعطاء والنخلة رمز كوني و ووطني مثقل بحمولة قدسية وغذاء روحي منذ أن قيل لمريم العذراء (عليها السلام) هزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً؛ فضلاً عن أنها جزء من الأيقونة في الشعار الوطني والعربي ؛ أما النهر فدفق من العطاء ورمز لكثرة كاثرة تروي الظمأ وتسقي عِطاش الزرع وتطهّر الأبدان من الأدران، والصباح نور يبددّ ظلمات الجهل و يضيء الكون، والمسك فوّاح بأجمل الروائح وأنقاها ورمز للبراءة و الجمال معنىً و شعوراً والشمس نور كوْني يغمر النفوس والعقول و القلوب و القمح بسنابله الذهبيّة كينونة و وجوداً وغذاء و حياة، و العزف تشنيف للأرواح و الآذان ، و يطول بنا الحديث عن هذا المعجم السخيّ الذي يترجم عن حسٍّ مُرهف وضمير نقيّ و خبرة وطيدة في التعليم و التربية، ودعاء و تضرّع هو مسك الختام. هذه القصيدة وثيقة شعريّة ستُحفَظ في أرشيف التاريخ التربوي التعليمي وقبس من روح وهّاجة ونفس معطاء. أما القصيدة الثانية للشاعر صالح جريبيع الزهراني فهي تذكّرني بالثنائيات التي أشرت إليها في بداية هذه المقالة: المعارضات و النقائض والمساجلات والردّود ، ولكنها تختلف عنها بتقمصها لمسؤوليات المتلقي للقصيدة السابقة و النيابة عنه بما يفترضه مناسباَ لها على لسان شاعر قريب من كليهما مؤهّل للنهوض بهذه المهمة ولكنه ينطق مترجماً عواطفه و رؤاه و تقمّص فيها شخصية غيره . اللافت مطلع القصيدة الذي يرتكز على الإشادة بالقصيدة مضموناَ و لغةً (الجلالة) بما تضمنته من ظلال وارفة للتقدير والتبجيل و (نهر البلاغة) تعبيراً عن جماليات النّص وروعته والمقابلة في لفظتي التصريع بين (أُمهرا) و(قد سرى) بناء للمجهول تفخيماً و تعظيماً و للمعلوم اعترافاً و إشادةً ، ثم تقمص المتلقي لهذا الخطاب بما يراه أليق و أجدر ، مستثمراً ضمير الجماعة تعبيراً عن الموقع المسؤول وليس عن شخصه، وتفخيماً لما يجدر أن يستقبل به النص في الوعي الجمعي وأمنية مرتجاة خيالاً يترجم عن المشاعر لا عمّا يقتضيه المقام الرسمي . إنه يتأوّل المعنى وراء هذا الحدث فيقرأ دلالاته العميقة ومعناه الوجودي فيرى أنّه يحمل العبرة والعظة ؛ فلكلّ شيء نهاية وأن ذلك إيذان بانقضاء العمر و مشارفة النهاية ، ويستشيم ما يمكن أن يفضي به من معاني التقدير كما تتبدّى في كلمتي (رفيق نضالنا) فالرفقة تحمل معنى التواصل و التآلف و الحميميّة، والنضال يوحي بالمساواة في الاطّلاع بالمسؤولية والنهوض بالواجب ، وصورة الرحيل والذبول تبدو صورة كونيّة بشريّة تعبر عن سنة من سنن الكون و الحياة : كتاب وداع من رفيق نضالنا يذكّر أن العمر ولّى و أدبرا وأن نهار البذل حان رحيله وأن ربيع الصبر ما عاد مزهرا وآنا جميعاً سائرون بإثره تقدّم منا بعضنا أو تأخّرا و التعبير الكنائي الذي استثمره الشاعر (نهار البذل) و(ربيع العمر) ينطوي على صور مجازيّة ثريّة الدلالة خصبة الإيحاء يخفّف من كثرة شيوعها على الألسنة مطابقتها للواقع واكتنازها بالحكمة البالغة .، قد احتفل الشاعر بالثنائيات الضدّية في القصيدة بما يتناسب مع الموقف ؛ فثمّة شعور بالإنجاز و استقبال مرحلة جديدة من العمر وشعور بالنهايات و فراق زملاء كفاح ورفاق رحلة طويلة , (وأن شتات العمر قد حان جمعه لننعم بالباقي ونحيا و نفخرا) وثمة تفصيل وتأمل وفخر وتدبر واستشراف أفضى إلى لون من ألوان التقدير والإعزاز باعتباره القدوة و المثل (سائرون بإثره) وتعداد المآثر التي اتصف بها ، ولعل تلك اللفتة الوجدانية التي انعطف بها الشاعر مخاطباً الموظف المختص في التماس وطلب عبر الأمر و النهي ألا يخبر المتقدم بهذا الطلب عما خلّفه هذا الموقف من حزن ( ولا تخبروه أن دمعي أمطرا) من اللفتات الطريفة وأنه امتثالا لأمره (فإنا قد أمرنا بما جرى) وليس من شك أن هاتين القصيدتين على الرغم أنهما يعدّان من شعر المناسبات ؛ جاءا على وزن بحرٍ ملحميٍّ ذي نفس طويل وخطى متمهلة وإيقاع منتظم يجري على سنن القدماء ،غير أنه شعر وجداني ذاتي ذو نكهة عصريّة خاصة يجمع بين النزعة التربويّة و النفسيّة و الاجتماعيّة ، وله وقعه الخاص وسماته المميّزة ، ويُعدّ ضرباً من ضروب التجديد الذي يضرب بجذوره في أعماق التراث ويستلهم روح المعلم وفي جِده وتضحياته ومهماته السامية.