قراءة في نماذج من القصة النسوية من مختارات (مئة قصة قصيرة من السعودية) لخالد اليوسف..

تميّزٌ في الرؤى و المفارقات و التشكيل والجماليات.

كنت في مقالة سابقة قد تناولت بعض قصص الكاتبات من هذه المختارات ، ووعدت بمتابعة مقاربتي لقصص أخرى ، فهذه حلقة جديدة أحاول فيها أن أستأنف ما بدأت : في قصة (القطط ) للكاتبة وفاء العمير ،تمحور الحدث فيها حول الصراع بين القطط ، تشكّلت القصة عبر سلسلة من المشاهد الدراميّة الحسّية ، كان كل مشهد صراع يضمُّ قطّين من لونين مختلفين ، فلو عملنا على مقاربة القصة من خلال قراءتنا للبنية السّطحيّة لما لفتنا فيها شيء يذكر سوى الانسيابيّة اللُغوية التي تدلّ على ملَكَة الكاتبة السّرديّة و قوة ملاحظتها وحساسيّة عدستها في التقاط المشهد بتفاصيله الدقيقة ، و قوة الملاحظة التي تلتقط الصورة بمختلف أبعادها، المشهد الأول منها تتمثّل فيه حَلَبة المنازلة التي اختارت لها أن تجري في (النافذة) بما ترمز إليه من دلالة مزدوجة (هامشيّة الحيّز المكاني) و (تجاوز الدائرة الضّيقة للمكان أي الإطلالة على الفضاء الواسع) حيث الاستشراف و التأمل وانفتاح باب التأويل ، وأما ما تلاه من خطاب فهو استكمال للمحيط المكاني في إشارة بالغة الدلالة إلى تفوّق وجود القطط على عدد السكان مما يمنح النّص معنىً رمزيّاً واضحاً يلفت المتلقي إلى ما وراء السطور ؛ فالتوازن بين الفريقين المتصارعين مفقود ؛ أحدهما يتنمّر على الآخر في موازاة التفوّق العددي على المحيط البشري ، واستقوائه على السكان، ورصد ذلك من خلال واقعةٍ حدثيّةٍ هامشية لافتة التخلّص من (القمامة) والتّحدّي المباشر للساردة التي عملت على تشكيل اللوحة المشهديّة بخطوطها وألوانها، ورصدت تفوّق أحدهما على الآخر وتهديده له،و يمثل ذلك ذروة الحدث، نقلته الساردة (الأنا الثانية للكاتبة) حيث اشتدّت الأزمة وبلغت قمّة التوتر، ثم كانت لحظة التنوير حين عادت إلى مكتبها خائفة من القطط حولها. ثلاثة مشاهد تُمثّل البنية التقليديّة للقصّة القصيرة ؛ ولكن المغزى العميق نلحظُه في رمزيّة القطط والصراعات بينها و تهديدها للسلم الاجتماعي و غلبة القويّ على الضعيف ؛ فتعبير (القطط السمان) شائعٌ في الخطاب المتعلّق بغَلَبة القوى التي تملك السطوة والقوة ؛ كذلك فإنّ الحسّ النِّسوي باديَ الألق وساطع الرؤيا. وإذا كان لي أن أقترح شيئاً أرى أن الكاتبة بما أوتِيت من حٍّس إبداعيٍّ متميِز يمكنها أن تأتي بخاتمةٍ أكثر إضاءةً لمغزى القصة وأكمل تنويراً. أما وفاء الطيّب في قصتها الموسومة (توتي و الجواز الأخضر) فقد كان تشكيبلها لشخصية (ردينة) ورسمها لبورتريه تتّضِح فيه ملامحها النفسيّة و الاجتماعيّة و الذهنيّة بأبلغ تعبير عن هذه القسمات ؛ فقد أحاطت بأصلها و جذورها الجينيّة خُبراً، ولعل ما يلفت الانتباه في بنائها لهذه الشخصية سلسلة الانزياحات عن المألوف لتصوغ منها مخلوقةً استثنائيّةً عبر الحوار الذي اصطنعت فيه لغةً ذات مفردات موغلة في شعبويّتها ملتقطةً برهافةٍ دالّة على نمطٍ من التفكير يمثّل طائفةً اجتماعيّةً أُنثويّةً خاصة، لها رؤيتها للرجل وسلوكياّتٍ معبّرَة عن نموذج عمدت فيه إلى التوغل في استقصاء ما يدور في وعيه بذكاء ، ولم تقف عند هذا الحد ؛ بل عمدت إلى تقصّي الدهاء النّسويّ وجماليات الغرور الأنثوي واستلابها لعقول الرجال ، ومناقشتها عبر الحوار لمفاهيم تتعلّق بالخصائص الجَندَريّة المتعلّقة بالرجل و رؤية المرأة له، واستلهامها للنصوص المقدّسة فيما يتعلق بقصة آدم و حواء و استطرادها في خطوة أخرى لفهم تلك العلاقة عبر ما يتعلق بوفاة الجد وحال الجدة بعده ، واستطرادها لموقف الاثنين من زواجها بجهاد، واستطراداتها الأخرى حول التنَصّر نشداناً للحرية والتداعيات المتتاليّة المتعلقة بشخصيّة أنثويّة أخرى هي (سالي) واستثمارها لرمزيّة جواز السفر، بوصفه وسيلة لاستعادة الحريّة؛ وكذلك استبدال النصرانيّة بالإسلام هرباً من العنف الأسري و أوبتها من هذه الغفلة، واشتياقها إلى الثراء الروحي و الشعائر الإسلاميّة، وما ختمت به القصّة من إضاءة منيرة تمحو ماعلق في ذهنها من زَيْغ من خلال وصية الأب المُحتضر وإهمالها لمكالمات ردينة . وإذا كان لي أن أعقّب على هذه القصة أرى أنها مشروع رواية تعدّدت مفاصلها، وبدت هذه المفاصل وكأنها فصول روائية لها أبعادها الزمانية و المكانية وطاقتها الحوارية الكامنة. أما هيام المفلح فقد نحت في قصتها (فكرة) منحىً جديداً يتّسق مع العنوان التجريدي الذي اختارته لها(فكرة) وهي مفردة نكرة تدل دلالة عامة ؛ فأتت بشخصيات أطلقت عليها أسماء رمزيّة تتمثّل في (س) و(ج) و (م) امّا الرابع فنعتته بصفة (متشرّد) وهي أشبه بالرموز الرياضية، ومع ذلك تبدو القصة ذات منحىً تجريبيٍّ، تنبني وقائعه على أسُسٍ منطقيّة ، تم التخطيط لها بوعيٍ تامٍّ لتصل في نهاية المطاف إلى لحظة التنوير، ومفادها أن هذا الرمز(س) يشير إلى المجهول ، وقد قدّمته الكاتبة على أن صاحبه كسول مهمل عاجز عن تنفيذ الفكرة التي خطرت بباله فباعها إلى من تولّى تزيينها وهو صاحب الرمز (ع) التاجر الذي زيّن الفكرة وتاجر فيها ، فاشتراها صاحب الرمز (ج) المتفائل الذي فرح بها و جمّلها ثم منحها لصاحب الرمز (م) المتشائم العنيد صاحب المزاج السوداوي الذي حوّلها إلى رصاصة سوداء، ثم سرقها أحد المشردين الناقمين وأطلقها على المترف الأول صاحب الرمز (س). فكّرت في الرموز الأربعة (س،ع،ج،م) بدت أشبه بالأحجية ، و قلّبتها على وجوهها مجموعةً و مفردةً ،واقترحت لها معاني (السعي) و(العمل) و (الجهل) و (الموت) مكملاَ كل حرف بما تصوّرته رمزاً للمعنى الذي توسّمته،سلسلة من الخطوات ، فقد سعى (س) فأنتج فكرة؛ و لكنه عجز عن تنفيذها ، فتلقّفها من عَمل على استثمارها فباعها لمن جمّلها، ولكنه أسلمها خجلاً من صاحبه البائس المتشائم ،أملاً في إخراجه من يأسه و قنوطه ، فجعلها أداةً للموت (رصاصةً) سوداء ، فاستغلها المتشرّد صاحب النوايا الانتقاميّة الشريرة فقتل صاحبها الأول الذي أنتجها ولم يفلح في استثمارها كسلاً منه وتقاعساً وإهمالاً ، سلسلة من الأفعال المتوالية التى نمّت الكاتبة من خلالها الحدث حيث بلغ ذروته عند (م) المتشائم الذي أسلمها للقاتل، فلحظة التنوير تشير إلى الفشل في استثمار الفكرة وإهمالها و الانتهاء بها إلى القضاء على صاحبها . و إذا كان لي من كلمة تعقيباً عليها فإنني أرى أنها محاولة للخروج عن التقاليد المألوفة في فن القصة القصيرة عملت على تنشيط الذهن وتعميق التأمّل دون أن تخلّ بالتقاليد الفتيّة لها ،فهي تلتزم بالمثلّث الأرسطي (البداية والذروة و النهاية) وتعبر عن لحظات التوتر وتمثل الأزمة ؛ غير أن فيها كدٌّ ذهني أكثر ثراءً من الانطباع الموحّد (غير المجرد ذهنيّاً ) الذي يرى أرباب هذا الفن أنه الغاية من القصة القصيرة ، ولكنها في نهاية المطاف تجربة أصيلة في هذا الميدان . في قصة نورة بنت سعد الأحمري (إصرار) قصة مشهديّة أشبه بلقطة سينيمائيّة عملت الكاتبة على تحرير السيناريو الخاص بها و المونتاج أيضاً، عبر إيقاع لاهث يتماهى فيه الانتظار مع الغاية منه (المصير) في دراما الصراع بين الوجود و العدم ، الموت والنجاة ، حيث يفوز الغياب في نهاية المطاف ، قصة ذات بعد نِسوي بامتياز، يعبر عن رؤية فلسفيّة و تشكيلٍ جماليٍّ حثيث يتقرّى ملامح اللحظة في توتّرها والأزمة في ذروتها، صراع الحضور و الغياب ، الموت و الحياة والتقاطات ذكيّة تساوي في الحركة بين الأدوات (الجمادات) التي تمنحها روحاً وحيويةً و البشر الذين يستعملونها من أجل استنقاذ الحياة من بين فكي الموت ، واستنطاق الجنين الذي استنكف عن رحلة الوجود وآثر استدباره احتجاجاً على المعاناة واستسلاماً للأمومة للموت بين يدي الحياة التي ولّت وجهها شطر الفناء ، أما (الإصرار) العتبة الرئيسة فتنتهي إلى تحقيق إرادتها في رؤية احتجاجيّة، وتأتي الخاتمة مضرّجة بدم الشهادة ، ومضة مضيئة تسجل اللحظة الفارقة. قصة أخرى تومض بمفارقات مُبدعة (الإنسية) للكاتبة القصصية نادية عبد الوهاب خوندنة: المرأة الجنيّة الإنسيّة و العسّا الأمين المفزع والذكريات الماضيات الراهنات ، ثلاث مفارقات تتأسّس عليها القصة وما يحيط بها من جماليات؛ دراما الصراع بين أنوثة رقيقة شاعرة ، ورجولة مسؤولة قاسيّة وظنٍّ مُثخن بالشّك وبراءة مصونة تستروح قدسيّة المكان و ذكريات مذخورة تستدعي ماضي الزمان ،اقتحام للّحظة الحرجة دون مقدمات ؛ و تلك خاصيّة من خصائص هذا الفن السردي؛ فالقصة القصيرة الجيدة هي محذوفة المقدمة ؛ وتوظيف اللحظة الزمنية الفارقة بين ظلمة الليل ووضح النهار ، ورهبة المكان “قلعة اللاسلكي الرابضة كعملاق نائم منذ الأزل” ووصف خاطف دقيق للفضاء المحيط والمفاجأة الصادمة ،وإيقاع سريع مذهل . نماذج أربعة نسوية الطابع تشكل لونا من ألوان الإبداع المتميز في مفارقاته وجمالياته ورؤاه .