
في عالم الدراما، يظل التاريخ مادة خامًا تُعاد صياغتها وفق رؤية المؤلف والمخرج، وغالبًا ما يثير ذلك جدلًا حول دقة الطرح ومدى التزامه بالوقائع. مسلسل معاوية الذي يُعرض هذا العام على قناة MBC يأتي ليعيد تشكيل واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في التاريخ الإسلامي، مستعرضًا شخصية معاوية بن أبي سفيان والصراعات السياسية التي أحاطت بعصره. لكنه ليس مجرد استرجاع للأحداث، بل هو قراءة درامية تُخضع الماضي لمتطلبات الفن، حيث تتحول الوقائع إلى مشاهد تحمل بُعدًا دراميًا يُثير التساؤلات أكثر مما يُقدّم إجابات. الكتابة التاريخية تُعنى بالدقة والبحث والتوثيق، بينما الكتابة الدرامية تتطلب بناء شخصيات ونزاعات إنسانية تعطي القصة طابعها الفني. وبين هذين النهجين، يظهر التحدي في كيفية تقديم شخصيات مثل علي ومعاوية والحسين وغيرهم، دون أن تتحول الدراما إلى تأريخ منحاز أو معالجة سطحية للأحداث. فالتاريخ، كما دُوّن، مليء بالفتن وسوء الفهم والصراعات التي لم تكن مجرد خلافات سياسية، بل تداخلت فيها المصالح والعواطف والانتماءات. الدراما لا تسرد التاريخ، بل تعيد بناءه. مع ذلك، يبقى السؤال مطروحًا: هل يُسهم هذا النوع من المسلسلات في توضيح أسباب الفتن، أم أنه مجرد إعادة تدوير للخلافات؟ يقدم «معاوية» الصراع بين علي ومعاوية كأنه مواجهة بين رؤيتين سياسيتين، لكنه لا يغفل البعد الإنساني لكل شخصية. المعارك الشهيرة مثل الجمل وصفين وكربلاء ليست مجرد مشاهد حرب، بل محطات لصراع فكري تتقاطع فيه الأهواء والقناعات والسلطة. عندما قُتل عثمان بن عفان عام 35هـ، لم يكن ذلك مجرد اغتيال لخليفة، بل كان شرارة انقسام داخلي بين معسكرين، استمر في التصاعد حتى بلغ ذروته في كربلاء عام 61هـ، حيث استُشهد الحسين بن علي، في مشهد لم يُنهِ النزاع، بل كرّس المذهبية كواقع ممتد في التاريخ الإسلامي. غير أن التساؤل يظل قائمًا: هل كانت المذهبية سبب الفتنة، أم أنها مجرد أداة استُخدمت في الصراع على السلطة؟ الكتابة الدرامية في مثل هذه الأعمال تسير على حبل مشدود. فمن ناحية، هناك وقائع تاريخية لا يمكن القفز عليها، ومن ناحية أخرى، هناك مساحة واسعة لخلق دراما متماسكة وجذابة. المشاهدون لا يتابعون العمل كدرس تاريخي، بل كحكاية تمزج بين الحقيقة والخيال، بين السياسة والعاطفة، وبين الأيديولوجيا والمصالح. دون مندوحة أن كل طرف في تلك الفتن كان يرى نفسه على حق، كما هو الحال في أي صراع سياسي أو ديني. لكن التاريخ لا يدوّن فقط ما حدث، بل كيف تمّت روايته، وهنا تكمن خطورة الدراما التاريخية. فأي معالجة سينمائية أو تلفزيونية تعيد تقديم الماضي وفق زاوية معينة، مما قد يجعل المشاهد العادي يتبنى الرواية الدرامية كما لو كانت حقيقة مطلقة. المذهبية لم تكن قانونًا دينيًا بقدر ما كانت اجتهادات بشرية، وقد صيغت لاحقًا لتبرير انقسامات سياسية أكثر منها خلافات عقائدية. كل فريق كان يرى في اجتهاده صوابًا، لكنه لم يكن مجرد اجتهاد عقلي، بل كان مدفوعًا بانحيازات شخصية، وقبائلية، وسلطوية. الفتن التي عصفت بالأمة الإسلامية في القرن الأول الهجري ليست مجرد حوادث عابرة، بل شكلت أساسًا لصراعات استمرت عبر العصور. وعندما تعيد الدراما استحضار تلك الفترات، فهي لا تكتفي بسرد ما جرى، بل تطرح أسئلة معاصرة: هل تغيرت طبيعة النزاعات، أم أننا ما زلنا ندور في ذات الدائرة؟ ما يميّز الكتابة الدرامية أنها تتيح فرصة لإعادة التفكير في التاريخ، لا بوصفه مجرد ماضٍ، بل كدرس مستمر. قد تكون الفتن انتهت، لكن تأثيرها لا يزال حاضرًا، وما تقدمه الدراما هو محاولة لفهم كيف ولماذا تتكرر الأخطاء. ومع ذلك، تبقى الحقيقة في جوهرها أبعد من الدراما وأعمق من أي سرد تاريخي—فالتاريخ يُكتب بعيون من عاشوه، بينما الدراما يُعاد تشكيله بعيون من يحكونه لنا اليوم.