قراءة في كتاب (تسابيح في محراب جدتي للكاتبة دلال بنت بندر المالكي..
منحى جديد في التشكيل وتقاطع ألوان السرد وتداخل الأنواع وتقنيات القص.

اللافت في هذا الكتاب وقوعه على التخوم الفاصلة بين القصص القصيرة و السيرة الذاتية و الرواية و المذكرات ، فقد أثار اهتمامي هيمنة شخصية الجدة الرئيسية التي تماهت مع شخصية الأم بوصفها محور السرد في ما أسمته الكاتبة بالتسابيح واختارت منذ البداية الفضاء الروحي لتتخذه منطلقا رئيساً مجموعة من النصوص محررة بلغة شاعرة تحلق في فضاءات مجازية قادرة على استحضار عالم روحي مازال حاضراً وآخر تحجبه سُجف الغيب، ولكنه مازال حاضراً ، خطاب مُضاء بنبضات وجدانيّة و وَجدٍ دفين وذات هائمة بين عالم الغياب (الجدة) وعالم الحضور (الحفيدة) أما المكان فقد تحول إلى محراب تطوف في أرجائه تسابيح وأذكار كما في المقدمة المعنونة ب(قبل الوداع) الجدة والحفيدة والراوية بينهما , في أولى النصوص تعزف الكاتبة ألحانها على وتر الكلمات فتغرق الراوية في تأملاتها تتفحّص جدتها وتتابعها وتتملّى عالمها و ملكوتها الروحاني ، وتتبّع حركاتها وطقوسها وشعائرها ، وتدس يبن ثناياها ماهجست به ملكتها السردية ، ثمة تواصل بين الألوان الأبيض والأسود بين النور والظلمة ؛ الثنائية التي شغفت اهتمامها حباً وماتفتّق عن هذه الثنائية من تجلّيات تتجاذبها الأشياء و الأحياء “ ولا أعرف أي وزر ارتكبه ذلك اللون حتى يصبح جميلاً محموداً في الجمادات المجملة من كحل و مسك وعنبر .... ثمّة حبلٌ سرّي بين أصحاب ذلك اللون وبين الموت و الجريمة و البشاعة” يتسارع إيقاع الأحداث في النص : العرس والميلاد والطلاق و الموت ثم الرحيل ، والنهايات الغمضة المحملة بالرمز خفيفا على ثقل حمولته الدلالية شفّافاً على عتمة إبهام الدلالة فيه ، وتحليقه في فضاءات الغموض الدّال على أجنحة التأويل . وتعمد في تسبيحتها الثالية إلى المفارقة اللونيّة : سواد الكحل وطقوسه ومغزاه وارتباطاته التي تذكّرنا بالواقعيّة السّحريّة ؛ ولكنها ترتبط بأصولها العقدية وتقاليدها الشعبية (العين حق) جعلت الكاتبة من التسابيح محوراً دلاليًاً نفذت من خلاله إلى توحيد خيوط السرد؛ فالأفعال والأقول مشدودة على حبل المسبحة وخرزاتها الثلاث و الثلاثين وحركة الجدة المتصلة بها، الواصلة بين حركة اليدين والكلمات التي تنثال مع توالي حباتها وتتساوق مع تقدم العمر ومرور الأيام ، وتربط بين أواصر القربى وتنافر الألوان ؛ فالسيدة العجوز السوداء أخت جدة الساردة البيضاء من الرضاعة ، ولم تنس أن تفجر المفارقة التالية بين تسابيح الروح والسخرية على لسان السيدة الظريفة أخت الجدة التي قالت هازئة من مشهد رجل شاهدته على شاشة التلفاز “ سبحان الله وسباحينه ما أطول رأسه وكراعينه” وهي تحاول في سياق نصوصها القصصية التي تتوالى حلقة إثر أخرى أن تلفت الانتباه إلى توالي الزمن متتبّعةً نموّ وعيها ونضج عقلها فتستهل كل فصل(أو تسبيحة من تسابيحها الأولى) إلى ما بلغته من سنين العمرفي موازاة منحدر العدّ التنازلي في مسيرة الجدة التي تطلعنا أولا بأول على طقوس حياتها وتبدّل أحوالها التي تظلّ ممسكة بما يميزها من ممارسة الشعيرة الأساسية وهي التسبيح ، يذبل الجسد ولكن الروح لا تذوي ، تتمسّك بالذهاب إلى المستشفى كلما أصابتها وعكة فتمارس طقوسها الشكلية المرتبطة بفلسفة الشفاء حيث الإصرار على اقتناء الثوب المطرّز بالأصفر و الأخضر ؛ فالأصفر مَكْمن الطاقة و القوّة ، ولم تكن لتلبسه قط ؛ بل ظلّت تحتفظ به حرزاَ يجلب الشفاء وكانت تؤمن بالحسد إلى أن سُجّيت في قبرها ، تلك التفاتة جاءت في سياقها لتؤكد ما ذهبت إليه فيما يتعلق بالواقعية السحرية آو ربما بشكل أدق (الواقعية الروحيّة ) في نصها الخامس أو (تسبيحتها الخامسة) تنمو مداركها (أعني الساردة المشاركة) التي تبدو وكأنها تستعيد ما وقر في ذاكرتها عبر تقنية (الاسترجاع) في بنيتها السرديّة ، تعود ثانيةَ لتتقرّى ملامح طباع الجدة وطريقة تفكيرها و مخالفتها لما تعتقد به الأم ؛ فهي لاتمانع من اختلاط الحفيدة مع الآخر الرجل فتستمع إليه وتعجب به؛ ولكنه مصفّد بإغلال العادة وجموده عليها شأنه شأن الأم التي تخالف الجدة ؛ فهي تحرّم على الأنثى مخالطة الرجل بعد البلوغ ، ويخيل إلى أنها حين تحدثت عن فشله المرة بعد الأخرى وإصابتِه بمرض في القلب أرادت أن توحي بما انتهى إليه هذا النمط من التفكير الذي لم يعد قادراً على التكيّف مع التحول الثقافي و التقدم الجضاري ؛ فكان الفشل في الدراسة والحب و العمل و الشقاء ثم الموت نهاية المطاف ، وتختم الساردة حكايتها في تأنيب ابنتها على تعصّبها وكراهيتها للفتاة السوداء ، وهو لونها الذي ظل موضع تركيزها في مختلف الفصول أو التسابيح استنكاراً واستهجاناَ وتبدو النزعة الانتقادية في التسبيحة السابعة حين شمّت جارتها رائحة الريحان الذي يذكّرها برحيل جدتها فألقت بالطبق الذي تحمله تطيُّراً من رائحة الريحان الذي يذكّرها بالموتى ، وتلك مفارقة أخرى بين هذا السلوك و ما جاء في هذه الآية الكريمة (فروح وريحان وجنة نعيم) في التسبيحة الثامنة يبدو المشهد ثلاثيّاً ثم ثنائيّا : الزوجة الراوية المشاركة والزوج ثم الأبناء يتحلقون حوله في انتظار إشارة الأم لاصطحابهم إلى بيت أهلها ، ثم ينحسر المشهد عن عنصرين تغمرهما ألفة حميمة الجدة و الحفيدة ، ثم تغادر الجدة ويبقى الثنائي الراسخ ، ذكريات و دلالات و مشاهد تتوالى منهمرة من الذاكرة تكاد تتصل ثم تنفصل في جدلية مستمرة بين الوحشة والأنس والتحوّل والانعطاف ، حراك مستمر في تفاصيله اليومية و في سيرورته القدريّة و حكمته الأزليّة . أجواء أنثوية تشيع في التسابيح وعواطف ودموع وميراث ينحدر من جيل إلى جيل يرث خصاله وطباعه ، الجدة حاضرة دائما بتسابيحها وأجوائها الروحية و فطرتها و مسلماتها وطقوسها تنعكس في مرآة الخلف عن السلف ؛ ولكنها الجذور المتجذرة ، نزعة ذات نكهة نسويّة ولكنها لاتتجه نحو رؤية فلسفية حديثة ؛ بل تظل في إطارها المألوف في المجتمعات التقليدية مشاهد متلاحقة وسيناريوهات تتماثل حيناً و تختلف أحياناً ؛ ولكن المهيمن منها ثلاث شخصيات كل منها يستنسخ الآخر : الجدة و الحفيدة التي تتبدّى في صورٍ شتّى ، حديث إلى الابنة التي تستنسخ صورة الجدة حيناً و يشوبها الغموض حينا آخر ، تنتشل من الماضي ذكريات الجدّة مع قصة حب من طرف واحد ، حتى لتظن أن الراوية تتماهى مع الجدة حتى يصعب عليك أن تميّز بينهما ، تتقاطع المسلكيات و المشارب و تتغير الصور وتتداخل و وتتقاطع . تبدو الذاكرة تختزن في قعرها منجم الذكريات التي تمتح من بئرها الذكريات ، وهي ترسم شخصية الراوية وما تحمله من آثار باقية ؛فالجدة هي التي تتسيّد المشهد دوما ، ويفور منها بركان الواقائع التي تترك آثارها على الشخصية ، تستدرجها عبر التداعيات وفق تقنية الاسترجاع التي تعيد رسم الصورة حيّة من جديد بكل ما وقر فيها و عليها من علامات، تتماهى الحفيدة مع الجدة ، وحين يبلغ الأمر منتهاه تفنى الواحدة في الأخرى . وتعود الذاكرة إلى منابعها فتستذكر عبر (الفنْتَزَة) المتماهية مع المعتقد الشعبي تحرره وقائع الساردة إلى صنع الأسطورة من جديد لتصبح جزءاً من مسارها ،فتذكرنا بسحريّة الوقائع وأسطوريّة المعتقد على نحو ما قيل من أن “ التين الشوكي نبت في أرض اليمن من دماء هابيل وقابيل لذلك يظهر الشوك على غلافه طارداً الناس عنه “. تنهال الذكريات وتتداعى، ومحورها الرئيس الجدة للأم وكأنه كائن أسطوري انشغلت بتوصيفه وتقديم (بورتريه ) له من خلال سلسلة المحكيات و التوصيفات عنه، وكأنها تقدم نموذجاً غائباً تستعيد حضوره بضفائرها الحمراء الكثيفة وكيف استأصلت شعرها من جذوره الذي تركته لزوجها كي يصنع منه لجاماً لفرسه صورة أسطورية شعبية تفيض بالدلالة والرمز القابل للتأويل ،و في ذات الوقت نستشعر فيه نبض مأساة ، وتبدو المفارقة الصادمة في العلاقة بين الجد والجدة ؛ فالجد يأتي على النقيض من الجدة بغزله الفاحش وبراجماتيته المكشوفة و الحدة بروحانيتها الفائضة . تنحو الكاتبة في نصوصها القصصية منحى التشكيل السردي السيري الذاتي ( الأو توغرافي )عبر تسلسل ضمني على الرغم مما يمكن رصده من استرجاعات واستتعادته من مواقع ، وما تفصح عنه من تقلّبات لها خلفياتها و وقائعها التي تحكم العلاقة بين الجد و الحدة وتتقاطع في بعدها العاطفي و الواقعي مع جيل الحفيدة التي تسترجع تسابيحها . الجدة حاضرة دائما في وعي الساردة وفي الوقائع التي ترويها في مختلف المواقف ، ثمة استرجاع للذكريات تتحدث فيه الساردة عن حرمان جدتها لها من الرقص و تقيد حريتها و ما تعرضت له وتم إنقاذها على يد الجار الطيب ، ثمة تحليل ضمني للعلاقة بين الأجيال المختلفة وما يحكمها من تقاليد ويكبّلها من محاذير ترويها الكاتبة على لسان الساردة. وتأتي الكاتبةعلى ذكر بعض العادات الطريفة و الغريبة التي تستحوذ فيه الجدة على المولودة الأولى وتترك للأب و الأم لينجبا أبناء آخرين ، و تروي كيف أن والدها و ووالدتها أنجبا تسعة ذكور على العكس من نبوءة الجدة ، ثمة ما يروى من غرائب وعجائب حول الجدة التي كانت مستشارة لوالدها وكانت سبباً في ثرائه وخسرت أنوثتها وازوّر الرجال عن خطبتها إلى أن رزقت بمن لا رأي له في اختيارها فأصبحت آمرة ناهية ولكنها خسرت أنوثتها , منهج جديد في التشكيل ولغة شاعرة ، ورؤيا ذات بعد اجتماعي حضاري، وغوص إلى أغوار المرأة وتباين الرؤى بين الأجيال, وكثير مما يمكن أن يقال.