الأرض كلها بيت.

تعلو الشمسُ رأسي وأنا أحاول التقاط ما أمامي. ليس اليوم مناسبا لالتقاط صورة، ومع ذلك يشدُّني المنظر قبل الفكرة… مزاجٌ أخضر يترامى بانحيازٍ مجهول، يتتبَّعُ أثَرَ شيء ما، ويهجر آخر. يلفتني هدوء النبات، بل عقلُهُ، وتلفتني قراراته أكثر، وبطريقة ما يشبهنا وخياراتنا، لكنَّ الأرض كلها (بيت) لهذا الكائن، مسقوفة بالحرية الكاملة، تكفل له الذهاب أينما شاء ولا مساءلات أو حساب، وأمثال يدي -التي تلتقط صورته- هم مشكلته الحقيقية لو تأملنا. يأسرني المنظر كأنه بوابة حلم، يخدِّرُني حتى فقدتُ ما بقي من إحساسي بقدميّ بعد يوم عمل مرهق… نباتٌ بريّ يفترش الأرض حولي، رائحة المطر بصمةٌ عجزت الشمس عن محوها، وزهور صفراء تباهي أشعة الشمس بما تبقّى للضعيف من غرور، كأنها تحاول سحب بساط اللون منها بحجّة (صاحب الأرض). مهلا! إنها مشلكتي أنا أيضا في المكان نفسه! وفي الوقت عينه! لكنَّ من يحدد صاحبَ الأرض في حالتي هو كائن آخر، وبمزاجٍ ضال، لا يشبه عُشر ما ينطوي عليه عقلُ عشبة موسمية. الرصيف الجانبي الذي تتكاثر حوله تلك النباتات ضرورة، كأنها تحتمي به، يصونُ بهجتَها الضئيلة عن أرجل المارة، وإلا وُطِئت وكُسرت أعناقها حتى تضحك عين النهار. وذلك من حسن حظّ نباتاتي طبعا، هكذا انتسبنا بأحكام الغرباء. أنعكسُ بظلّي عليها واقفةً وأتخيل نفسي حامية لها أيضا، تذهب ظلالي بعيدا على مدّ بصري كخيالات منصهرة. تمرُّدُ الظلّ على قامتي يقي النباتات الزاهية غطرسةَ الظهيرة، لعلّ الله مدَّهُ لأسباب كهذه. أفكر فيما لو مكثتُ ساعة؛ ربما ستميل النباتات نحوي، وإن مكثتُ لأسبوع أو اثنين فلعلها تتخلى عن تقفي آثارها وتغيُّر خرائطها بوضوح؛ فالحنينُ إلى (ظَهْرٍ) فطرةُ الأحياء والأشياء… ولوهلة شككتُ بإفسادي لمزاجها؛ فقد قطعتُ عليها ذروة انتفاعها بالأشعة، ولم ألبث أن أغيّر رأيي؛ إذ أفسدتُ التقاطتي نفسها بظلي القاتم. أُعيد التموضع، وأظهر كما لا أريد في كل مرة، ما زلتُ ضخمة، بقامةٍ مسودّة طويلة. تنتهك الشمسُ قدرتي على إتقان الالتقاطة، أحتاج لرُشد عيني الضالّ، أتسوّله بإغماضات متجعّدة، أود أن تكون التقاطتي المرجوَّة كما أرى وأجمل، لكنني أشعر باللحظة، أُحسّ بالأنسام الباردة وحميمية نهار شتوي، ويستحيل نقل ما أشعر به عبر التقاطة. أليست أمورنا كلها هكذا؟ تناغُمُ المشهد يزداد في وجداني، فأتذكّر أشياء أخرى تجعلني أبتسم؛ كلمات وأشخاص وتجارب، أشياء لا ترصدها حالات الطقس. تعبرني مواقف كنتُ فيها كالتقاطتي، في موضع مشابه لما أراه أمامي، كنبتةٍ غريبة، أو عشبة موسمية قد تبدو مضطربة الهوية، يميّزها الأهلون والغرباء ليقطفوا حياتها. وجودها في حياة غيرها قد يكون عشوائيا، وقد يبحثون عنها بحجة التعافي من علة ما. مقيت هذا الإحساس بتدفُّقِ (الضعف) هويةً... أتذكر شعور لحظات عريضة؛ حين كنتُ مثلها، ضئيلة بما يكفي لأتخفَّى، قوية بما يعاجلني بقول (لا)... أتذكّر غرورَ شيء ما كان مصيرُهُ (أعلى) دائما، كتلك الشمس التي ستحرقها بعد أيام أو أسابيع… أو حجج صاحبِ أرضٍ موهوم… كنت أبتسم بما للضعف فيني من بقية عِزَّةٍ جينيّة، وأملٌ في عيني يعِدُ برجوعٍ نوعيّ، أسمعه في أذني صادقا، أحيانا لا يخطئ حديثُ النفس للنفس، لعل الأسلاف يبقون هناك! ممن لم ينل الموت منهم تماما، يختبئون في رؤوسنا ناصحين أو خلف آذاننا، كالملائكة إلا إنهم متحيّزون لنا أبدا. وفكرةٌ ما لم تمت رغم قسوة ما حولي، تعدُني في نفسي خيرا. تُعاقبنا الأفكار حين يكون في يدينا كثيرٌ مما ينحِّيهِ نقصُ الإيمان بالذات، تقلّبه فينا كشِواء... وشيء ما (حقيقي) جدا ينضجه الوقتُ. وأنا هنا كالتقاطتي بشخصياتها وبظلالها الضخمة في رأسي، بضوضاء تبحث عن ذاتها في غيرها، لكنني أملك قدمين صريحتين، قدمين تمكِّنانني من الخروج عن الإطار والدخول في آخر، قدمين تساعدانني على التخفي في ألف مشهد مظلم ومضيء، والانبثاق منه أيضا. لستُ مضطرة للبقاء كنبتة، ولا أدور حول الأشياء بلا معنى. قصة حياتي لا تلتقطها وقفة واحدة. يحملني القدر إلى أمكنة متعددة، وإلى أزمنة تفوقها، تفتح أبوابها اللانهائية في وجهي بألف طريقة لأحيا. قد يحبسني البيتُ لغرض جوهري، لكنَّ الأرض كلها لي أنا أيضا. أُسلّم لقوة عُليا واحدة مهما أوذيت، أضع رأسي -حين أضعه- لها وحدها، أحاول ألا أشرك معها شيئا آخر. خضوعي مؤمنٌ عاقلٌ، هو الخضوع المثالي الوحيد للحياة. لا أتزحزح في مجالات رؤيتي عن معبودي، هو ظلّي المتَّبَع، أتشبث بما يجعله نصبَ عيني مهما أوقفتني رجلاي إعجابا أو امتعاضا لمشهد ما. وكم تتجلى لي الآن فكرة أخرى، لعلّ وضوح الرؤية مجال غير بصري، ولعلي سأرى كثيرا مما لم يُهيَّأ لالتقاطة… أو لعلي وقفتُ أكثر مما ينبغي، والتقطتُ أكثر مما رغبتُ به، وعلى قدميَّ الآن المغادرة، أو أنَّ الآفاق الرحبة لا تنتظر خُطًى وأقدام… ولا حدَّ لالتقاط تفاصيلها.