
في حي الشرف شرق مدينة أبها، ينبض «متحف فاطمة لفن القط العسيري والملابس التقليدية» بالحياة، حاملاً بين جدرانه قصصًا من التراث العسيري العريق، هذا المتحف ـ الذي أنشأته الفنانة فاطمة فايع يعقوب وأسرتها في منزلهم ـ ليس مجرد مكان لعرض القطع الفنية، بل رحلة في ذاكرة الجنوب الفنية النسائية، حيث يمكن رؤية المشغولات الفضية القديمة والملابس التقليدية، فيما تتحدث الألوان والنقوش عن تاريخ وثقافة نساء عسير، يمثل وجهة سياحية رئيسية في ثقافة المرأة وتراثها، القط العسيري: فن وهوية ليس القط العسيري مجرد زخرفة بصرية تنمق جدران البيوت، بل هو صدى الروح النسائية العسيرية، وقد تَجسّد في خطوط وألوان في أشكال هندسية ملفتة، إنه فن لا يشتغل على المساحات فقط، بل على المعاني العميقة المتراكمة في الذاكرة الجمعية لنساء عسير. في كل مثلث، دائرة، أو خط مستقيم، تنسج المرأة العسيرية جزءًا من رؤيتها للعالم، وتكتب بالفرشاة ما عجزت عن قوله بالكلمات. يتخذ هذا الفن الشعبي بعدًا رمزيًا لا ينفصل عن وجدان المكان والإنسان، ويُمارس كما لو أنه طقس وجودي لا تكتمل الحياة بدونه. ترى الفنانة فاطمة فايع أن القط العسيري كان ولا يزال أسلوبًا خاصًا للمرأة في التعبير عن حضورها، في منزلها، وفي مجتمعها، وفي نفسها أيضًا. تقول: “كانت جداتنا يملأن الجدران برسائل مشفّرة فنياً، يعرفن وحدهن معانيها؛ فإذا وُضعت الختام في الجدارية، فمعناه أن البيت عامر بالقرآن، وإذا تكرر الشكل المثلثي، فإن للمرأة دورًا مركزيًا في بنية الأسرة”، تتابع بنبرة تأمل: “لم يكن القط العسيري ترفًا بصريًا، بل فعل بقاء، وطريقة ذكية للتعبير عن الكثير بأقل القليل”. يتأسس هذا الفن على فكرة التوازن، التي تظهر في انتظام الأشكال، وتَساوي الأطوال، وتناسق الألوان، وكأن المرأة حين ترسم، تبحث عن انسجام غائب في العالم الخارجي، وتعيد تشكيله كما ينبغي أن يكون. فكل لوحة في القط تَعد بجمال غير عشوائي، بل مرسوم على وعيٍ بأن هذه الجدران ليست مجرد حجارة، بل ذاكرة حيّة، تقول الفنانة فاطمة أن القط العسيري يحمل “ذاكرة بيئية نسائية محضة”؛ ذاكرة لا تُروى بالكلمات، بل تُمارَس بالألوان، تستحضر حديثها عن القط العسيري قائلة: “رأيت وتابعت أعمال الرائدة فاطمة أبو قحاص، ولم تكن تعلم وتُدرب بالمفهوم العام الآن، لكنها كنت عظيمة ومربية وأم للجميع، وإلى الآن نادرًا من تسمع من يناديها خالة أو عمة أو أستاذة، الكل يناديها أمي فاطمة (رحمها الله)، وقد قال عنها الفرنسي تيري موجيه: أنها حفظت لنا هذا التراث الفني العريق”. حين تنطق الجدران مع الزمن، بدأت تدرك حجم التهديد الذي يواجه هذا الفن، تقول: “لم أكن خائفة من نسيان الألوان، بل من اختفاء الأيدي التي تعرف كيف تُمسك بالفرشاة كأنها تمسك بإرث عظيم”، سارعت فاطمة فايع إلى إنشاء برنامج تدريبي خاص، ضمّ أكثر من 150 فتاة وسيدة، ونسّقته مع مؤسسات ثقافية، في محاولة لصناعة جيل جديد يُتقن الفن لا كما يتعلمه في ورشة، بل كما يرثه بحبّ ومسؤولية”. في إحدى جلساتها مع المتدربات، أخبرتهن فاطمة أن القط لا يُعلّم، بل يُورّث، وما يورّث لا بد أن يحمل العاطفة، لأن التقنية وحدها لا تصنع لوحات حيّة. وأكّدت لهن أن كل شكل، حتى لو بدا تكرارًا، يحمل تأويلًا مختلفًا، تمامًا كما تحمل كل امرأة تجربتها الخاصة. تؤمن الفنانة فاطمة فايع أن من لا يرى في هذا الفن شيئًا أكثر من زخرفة، فقد أغفل جوهره الأعمق، ففي صمت الجدران التي زينتها أنامل النساء العسيريات، تنبعث قصص كاملة عن مجتمعات أغلقت فيها الأبواب على النساء، ففتحن الجدران بألوانهن، وبينما كانت بعض المجتمعات تعبر بالكلمة أو الصورة، كانت نساء الجنوب يتحدثن بالأخضر والأصفر والأسود، من دون أن ينطقن، ولا أن يُدرّسن، ولأن الفنانة فاطمة تؤمن أن الفن لا ينجو إلا إذا استعاد مكانه في الحياة اليومية، فهي لا تقدم القط العسيري كمادة متحفية جامدة، بل كتجربة تفاعلية، تتيح للزائر أن يلون، ويتأمل، ويشارك. وتقول: “أحب أن أرى طفلًا يمسك بالفرشاة، لا ليرسم فقط، بل ليعرف أنه ينتمي إلى هذا الجدار، وهذه اللغة الفنية”. فاطمة فايع: حارسة التراث الفنانة فاطمة فايع ليست مجرد فنانة تشكيلية، بل ذاكرة حية تمشي على الأرض، تُجسّد في ملامحها صوت الجنوب، وفي أناملها أنفاس الجدّات. وُلدت في رجال ألمع، وتشرّبت منذ طفولتها نقوش الجدران، وهمسات الزخرفة، وألوان القط العسيري التي كانت نساء عسير ينسجن بها أسرار الصبر والفرح والحلم. ورثت عن فاطمة أبو قحاص، رائدة هذا الفن، السرَّ الأقدم، وقررت أن تسهم في تخليد هذا الفن لا كزينة بصرية، بل كموضوع ثقافي وهوية ورسالة. ومنذ ذلك العهد، كرّست الفنانة فاطمة فايع حياتها لحفظ فن القط العسيري من الانقراض، ولمواجهة النسيان بإبداعٍ بصري مُسْتحضر من عمق الجبال وذاكرة النساء. لكنّ التزام فاطمة لم يتوقّف عند حدود الحنين، بل حمل طابعًا مؤسساتيًا وعمليًا؛ حيث أنشأت متحف “فاطمة”، بمشاركة أسرتها، ليكون وِجهةً رئيسة للسياحة الثقافية في عسير، ومزارًا للباحثين والمبدعين، ومرجعًا بصريًا لتراث المرأة الجنوبية. لا يقدّم المتحف عرضًا بصريًا فحسب، بل يشتمل على مرسم شخصي مجهز تُقام فيه دورات تدريبية منتظمة لفن القط، ويُستخدم كمنصة تعليمية دائمة. ومن خلاله، درّبت فاطمة الكثير من النساء والفتيات من مختلف مناطق عسير على أسرار هذا الفن، بالتعاون مع جمعية الثقافة والفنون، وجمعية آباء، والهيئة العامة للسياحة، والمعهد الملكي للفنون التقليدية، ووزارة الثقافة، ليغدو المتحف مدرسةً غير رسمية لتوريث المهارة والهوية. متحف فاطمة: ذاكرة الجنوب حين يعبر الزائر عتبة “متحف فاطمة” في حي الشرف بمدينة أبها، لا يجد نفسه أمام قاعة عرض تقليدية، بل أمام مشهدٍ متكامل يُعيد بناء الذاكرة الجنوبية بكامل تفاصيلها الغائبة. فالمكان ليس صامتًا، رغم جدرانه الحجرية، بل يتحدث من كل زاوية، بلغة التحف والأنماط والنقوش، كأنه دفتر مفتوح لزمنٍ كانت فيه المرأة تمسك بزمام الجمال في بيتها وقريتها. يزخر المتحف بأكثر من 400 قطعة فنية، إضافة إلى الفضيات القديمة والملابس النسائية، جمعتها الفنانة وأسرتها، عبر سنواتٍ من البحث والتوثيق والتجوال بين القرى والجبال والبيوت العتيقة. تتنوّع المعروضات بين الحليّ المصنوعة من الفضة التي كانت تتزين بها نساء المنطقة في المناسبات، والأواني الفخارية المزخرفة التي كانت ترافق المائدة اليومية، والكراسي الخشبية المعروفة محليًا بـ “التختات”، والصناديق المطرّزة، ولوحات القط التي تتوزع كما لو أنها استرداد لما كان يُرسم على جدران البيوت ذات زمن. لكن المتحف لا يقتصر على القطع المادية، بل يحتوي كذلك على طيفٍ واسع من الألبسة التقليدية التي تُجسد أنماط الأناقة الجنوبية بطبقاتها المتعددة. من الثوب النجراني المكمم بطابعه النجراني، إلى “الميل” المطرز بألوان جازان، مرورًا بـ “المجيب” و”المجنب” و”النطع” و”المزر”، وصولًا إلى “حلة العروس” التي تحمل رمزية المرأة في أوج فرحها. هذه الألبسة لا تُعرض كأزياء، بل كحكايات محمولة على الأقمشة. وحين سُئلت الفنانة عن دلالة الاسم، أجابت بأن “فاطمة” لا تعني شخصها، بل كل الفاطمات، كل النساء اللواتي صمتن، لكنهن تركن بصماتهن على الجدران، وعلى الفخاريات، وعلى أطراف الثياب. أرادت فاطمة أن يحمل المتحف اسمًا شاملًا، لا يتوقف عند ذاتها، بل يمتدّ ليشمل نساءً لم تُكتب سيرهن، ولكن تُقرأ اليوم في هذه التفاصيل الموزعة على المكان. تقول الفنانة فاطمة فايع في أحد لقاءاتها: “لم يكن هدفي أن إنشئ متحفًا للعرض، بل أردت أن أخلق بيتًا حيًا، يُشبه بيت جداتنا وأمهاتنا، نُعيد فيه تشكيل ذائقتنا الجمعية، ونستدعي منه الإحساس الدفين بأننا لسنا غرباء عن جذورنا”، وهكذا لم يعد المتحف مجرد نقطة على خارطة السياحة، بل صار فعل استذكار يومي، ومساحة تُعيد تعريف العلاقة بين المرأة وهويتها، بين اللون والذاكرة، وبين الفن والمجتمع، في “متحف فاطمة”، لا تُعرض التحف على رفوف عالية وبطاقات جامدة، بل تُحكى، تُلمس، ويُعاد رسمها وتلوينها في ورش حيّة، ما يجعل من زيارة المتحف تجربةً وجدانية قبل أن تكون بصرية. ألوان لا تنطفئ في أحد أشهر المنجزات العالمية، شاركت الفنانة فاطمة فايع ـ بالتعاون مع الفنان العالمي أحمد ماطر، والسيد ستيفن والأستاذة أروى النعيمي، وبرعاية من آرت جميل ـ في تنفيذ جدارية القط العسيري “بيت أمهاتنا” التي زُيّن بها بهو مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، لتؤكّد للعالم أن هذا الفن النسائي المتجذّر في الجدران الطينية قادر على الوقوف على ناطحات السحاب، حاملاً معه أصالة المكان وإبداع المرأة السعودية، وامتد حضورها إلى واشنطن عبر مؤسسة “مسك”، كما شاركت في الأيام الثقافية السعودية في الجزائر، وشاركت في المؤتمر العالمي للتسويق السياحي في دبي، وغيرها من المشاركات الدولية مما منح تجربتها بُعدًا عالميًا، دون أن تفقد روحها الشعبية. ولأنها تدرك أن التراث لا يعيش إلا بالتجديد، كانت مشاركاتها فاعلة في مشاريع معاصرة تنبض بالحياة، مثل فعالية “باص حرفي” مع المعهد الملكي للفنون التقليدية، ومهرجان “قمم الدولي” مع هيئة المسرح والفنون الأدائية، وفعاليات يوم التراث العالمي بالتعاون مع هيئة التراث، وأمسيات نسائية توثق أنساق حياة المرأة القديمة، ومعارض فنية أقيمت في مركز الملك فهد الثقافي في المفتاحة، وجمعية الثقافة والفنون في أبها، إن الفنانة فاطمة فايع لا تحرس التراث فقط، بل تنسجه من جديد؛ بالألوان الطبيعية، وباللغة التي تفهمها اليد والذائقة قبل العقل، حيث كانت مصادر الألوان الطبيعية تستخرج الأخضر من البرسيم، والأسود من الفحم، والأصفر من الكركم، وتضيف عليها صمغًا عربيًا من ذاكرتها، لترسم بها ليس لوحةً فحسب، بل وطنًا مشعًّا على الجدار. ولأنها تملك الحسّ التوثيقي، حصلت على دورة “صون التراث غير المادي” المعتمدة من اليونسكو، وعملت مع شركاء دوليين، مثل مؤسسة “جبل التركواز البريطانية”، على تطوير مشاريع فنية تهدف إلى صون التراث الفني وتقديمه بطريقة معاصرة تحاكي روح الجيل الجديد دون أن تتخلى عن جذورها. ختامًا؛ فإن “متحف فاطمة” ليس مجرد مكان لعرض الفن، بل هو شهادة حية على قدرة المرأة السعودية على الحفاظ على تراثها، ونقله للأجيال القادمة، فمن خلال هذا المتحف تواصل الفنانة فاطمة رسالتها في إبقاء فن القط العسيري حيًا، نابضًا بالألوان والحياة، ليظل شاهدًا على إبداع المرأة السعودية وارتباطها العميق بتراثها وثقافتها.