تولستوي وعبقريته الأدبية الخالدة الحرب والسلام .
لماذا تُخلد الروايات ؟ بضعة صفحات تفتق عنها ذهن إنسان عاش منذ زمن بعيد بعيد وذابت اليوم عظامه تحت الثرى وما عاد ممكنًا أن يحادثنا ، لكن بقيت أفكاره ،كلماته التي كتبها بيده وأغلق بين دفتيها قلبه ولسانه ورؤاه ، بقيت اليوم تخاطبنا وتُحي بيننا اسمه وتُخلد ذكراه ما دامت الأرضُ ودام ساكنوها ! لماذا لا تموت الكتب ويموت أصحابها ؟ لماذا تدوم الكلمات ويفنى كُتّابها ؟ لماذا تعيش القصص في زمن الأبدية ؟ في رأيي لا تُخلد رواية إلا لأنها كانت تحكي عن الإنسان ، فقط لأجل هذا ،لأن الإنسان يأنس بوجود أخيه حتى لو كان هذا الأخ قد عاش وتنفس قبل قرون من وجوده ! الحرب والسلم ، تحفة الأديب الروسي العملاق ليو تولستوي الخالدة ، الملحمة التي تزيد عن الألفي صفحة وبرغم هذا لا تجد ما إن تبدأ في قراءتها أي صعوبة في إكمالها، تجري دونك كما يجري نهر رقراق ، ليو تولستوي الأديب الروسي الوحيد الذي أشعر بكلماته حية نابضة ، وبقصصه غنية بالألوان والحركة ، بخلاف أي أديب روسي آخر ، والحرب والسلم عكست كل مقدرته الأدبية الفذة ، كل أفكاره وخلاصة تجاربه الحياتية ، كل أخطائه وعثراته وتطلعاته التي ما اكتملت ، كل قصص الحب التي وقع بها ووقعت به ، كل الأشخاص المختلفين الذين صادفوه وعرفهم وألفهم وأجاد قلمه البارع وصفهم ورسم ملامحهم بدقة حتى لتكاد تقسم أنهم أمامك وأنك صادفتهم كما صادفهم وأنك عشت حفلاتهم ومغناهم وقلقهم وحربهم وسلمهم . الحرب والسلم خُلدت لأن تولستوي رسم فيها حياة إنسي تختلف خلفياتهم وطباعهم وظروف حياتهم ، وتتبع لك الطرق المتنوعة التي انتشروا فيها وكيف جاسوا خلال الديار وأنّى انتهت بهم طرقهم . وفيما يلي بعض العبقرية التي تجلت لي بين صفحات هذا الكتاب: * إن تولستوي قد ولد بعد انتهاء كل هذه الحروب أي أنه يتحدث عن عصر قبيل هذا الذي ترعرع فيه فكيف تأتى له مناقشة كل هذه التفاصيل الحربية بكل براعة ودقة ونقل الآراء المتباينة والتطلعات والآمال والأحزاب التي تكونت ويتبع كل منها قائد روسي ما بعينه كيف نقلها بهذي الدقة؟ يعني لكأنه كان حاضرًا، واحدًا من الجند الذين خاضوا غمار الحرب وعبروا الغابات وسط لعلعة رصاصاتها، بل واشترك في الثرثرات والأحاديث الدائرة وسجلها حتى آخر حرف منها ثم نقلها إلينا بمنتهى الأمانة، إن تولستوي عبقري ولا شك! تخيل أن تصيغ من التاريخ حكاية شديدة الترتيب والدقة، أي صفاء ذهن تمتع به هذا الرجل حتى يوثق معارك بالعشرات وقعت كل أحداثها وانتهت قبل مولده وبهذا الاصطفاف المدهش؟! وتتداخل خيوط حكاية أبطاله بمنتهى البراعة ورحى المعارك الدائرة، إن الحكاية في الحرب والسلام خيال لكن الحرب حقيقة وقعت ورغم هذا فهي بعيدة كل البعد عن أن تبدو محشورة قسرًا في خيوط التاريخ المنسوجة داخل الرواية، حتى ليخيل للمرء أنها كذلك حقيقة وأن كل تلك الشخصيات قد عاشت وتنفست تحت أديم سماء روسيا في تلك الحقبة، وأنها قد عاصرت نيران الحروب التي وقعت آنذاك وشهدت نارها وأبصرت حرائق موسكو تندلع في شوارعها، مع لمسة رقيقة وتكاد تكون خفية من الدراما العذبة التي تضفي جوًا ساحرًا على الأحداث، يرافقها تمثيل حي وقوي للشخصيات حتى أنه يضطرب صدرك بالذي ترجف منه قلوبهم وتقع رغمًا عنك في عشقها وتخضلّ عينيك غير ذي مرة تأثرًا بكل ما يعترضها من مآسٍ وحادثات تعصف بهم. * روستوف والتساؤلات التي دارت بخلده عن جدوى الحرب وعبثيتها وإلى أين آلت كل تضحيات رفاقه حينما تم التصالح بين الإمبراطورين العظيمين بونابارت وألكسندر إمبراطور روسيا وهو تساؤل قض مضاجع الملايين عبر الزمن إثر كل حرب فاشلة وهم الذي قد رأوا أغلى أناسيهم وأحباءهم قد راحوا فداء لها، ثم يصطلح القادة فجأة أو يعود كل شيء إلى سابق عهده القديم قبيل الحرب أو يعلن القادة ببرود خسارتهم في حرب ما دخلوها إلا انتصارًا لكبريائهم. * وصف الحياة الدقيق لكل مجرياتها حتى لكأنك صرت على حين غرة في العام 1805 فصاعدًا، وهذه التفصيلات هي قلب الرواية وروحها، حتى إني لأجرؤ أنه لم يكن ليكون ثمة معنى أو حياة في تحفته الخالدة تلك لولا هذه التفصيلات، إنه يصف بدقة الحفلات واصطخاباتها وبسطها الحمراء واحتشاد الفضوليين خارج قصور الأغنياء المضاءة والمزدانة للترحيب بكبار زائريها، وحفيف الثياب الحريرية وتصفيفات الشعور وأسمائها والمجوهرات التي احتلت بها ثريات ذلك العصر وثياب الرجال العسكرية والمدنية ونوع الموسيقى والأغاني الرائجة وشكل الشتاء وشكل الصيف وتعاقب الفصول بوداعة وعفوية حتى لتخال الزمن نهرًا ينثال طبيعيًا بين صفحات الرواية، إن ما أكتبه هنا لا يفي معشار من جمال الحرب والسلام وبديع الحياة فيها، إنه حينما يتحدث عن الصيد فإنه يفرد له فصولًا طويلة ليصف كل أجوائه وخيوله ونوع الكلاب التي استخدمت وحركات الرجال والخدم ومدربي الكلاب ونوع الصيد وحتى ورق الغابة والتوت المتساقط من أشجارها تحت حوافر الخيول، إنك ترى كيف عاش هؤلاء القوم وكيف قضوا ليلاتهم وكيف فكر ذووهم وكيف اختاروا زيجاتهم وكيف كان متدينوهم وفاسقوهم، وتطالعك تباعًا عشرات الأسماء التي لا تلبث أن تسقط من ذاكرتك مرغمًا إما لصعوبتها الروسية أو لاختفاء أبطالها بالرغم من كونهم قد كانوا شديدي الحياة منذ بضع صفحات، وتبقى فقط شخوص الأبطال هي الماثلة في ذهنك، بيار والأمير أندريه وأخته ووالده العجوز العنيد، نيكولا والشقيقات روستوف وأولهن صغراهن وأبدعهن ناتاشا بتطلعها للحياة وإشراقتها والتماعة عينيها السوداوين وشغفها بالحب وصبابة قلبها بل وحتى صوتها المرهف العذب الذي لن تذكرها مرغمًا إلا في صحبة نغمه، لأنك في هذه الرواية أنت تشم وتتذوق وتسمع ويضطرب قلبك في صدرك خافقًا بالرغم منك !وهو حينما يتحدث عن الحروب فإنك ستسمع بلا مواربة صوت المدافع يدك أذنيك وستزكم رائحة البارود أنفك وستبصر بسالة الجند وتخاذلهم أمامك وسترى تصرف القادة المحنكين إثر احتدام المعارك بل وإنك حتى -وهذا هو الرهيب- سترى الموت جاثمًا وحيًا بكل تفاصيله، سترى ما قبله وأثناءه وكيف ماتوا ثم لماذا هزم ذاك الفريق أو انتصر، نعم ستقرأ تحليلًا وافيًا كما رآه مؤلف هذه الكلمات، إنها رواية ووثيقة تاريخية وقصصًا معقدة ومتشابكة في آن واحد، كما يجب بالرواية الحقة أن تكون وكما هي الحياة كما كانت أبدًا وكما استمرت وتستمر. * التساؤلات العميقة التي تمر بوجدان شخوص الحكاية عن ماهية الحياة، عن الترحال والخوف والحب وعن جدوى العيش، عن شغف الدنيا وخضرتها وزهوتها وكل جمال فيها، وعن الموت الذي يطوي كل شيء بعده، وكيف تستمر الحياة بعد أن أكون أنا قد غادرتها؟!، وهو تساؤل تسائله أكثر من شخصية لذاتها حتى يحملك ذلك على العجب كيف فكر الإنسان وهو في القرن التاسع عشر أنه في قمة الحداثة وأن فكرة موته وعتاقة عصره تبدو شديدة الغرابة بالنسبة له، لتعلم أنك مثلهم تفكر ومثلهم تتأمل ومثلهم تتعجب وأنك لا محالة وبكل بساطة مثلهم راحل. * إن تولستوي لا يملّ، إنه لم يترك تفصيلة إلا وأطال الوقوف عندها وتأملها من كل جوانبها ولم يذر خلجة نبضت في صدر بطل ما إلا واستعرض كل خفقة منها وبسط مكنوناتها في غاية التمهل والتأني دونك، إنه لا يمّلّ سواء في معركة أو حدث أو شعور أو حتى في وصف شخصية لن تدوم في الفصول التالية طويلًا لكنها استرعت انتباه البطل في حينها، لقد أخذ تولستوي كل وقته، لم يتعجل قط لقد كتب حتى أتخم شبعًا، ونسخت زوجه الصبور ملحمته التي تبلغ أكثر من ألفي صفحة لعدة مرات، إنهما متشابهان في طول بالهما وفي عظيم صبرهما، وبرغم ذلك لا تخلو روايته من المفاجآت فتلقى شخصية تركتها في وضع فجأة في مكان وزمان مختلفين تمامًا لتزداد الإثارة بذلك، قبل أن يعود ليسرد لك ما فاتك من مغامرته. * تولستوي بارع في سبر غور النساء وتجده يتحدث بتفصيل مرح عن كل ما يخصهن من عاداتهن ولباسهن وزينتهن وأطوار أمزجتهن وحتى التبدل الذي تُعمله الحياة في الواحدة منهن والتي تحيل شجرتها الصبية العاشقة للحياة الممتلئة أوراقها بعصيرها إلى شجيرة خريفية متلونة بألوان هادئة وقد خبا بريقها وقلت أيكاتها، حتى أنني لا أكاد أنسى أن المتحدث رجل وأن المفكر وراء هذه الكلمات ليس بامرأة ومع ذلك فهو يصف الإنسان الذي هما كلاهما من طينته بكل شفافية وحيادية وبمنتهى العمق. * إن الأحداث التي سوف تطالعك في الحرب والسلام واقعية كما الحياة تمامًا، على سبيل المثال العشق الذي حمله أبطال الحكاية لبطلاتها في بدايتها لن ينتهي بهم المطاف معهن، وليس مرد ذلك إلى مآس أو دراما خلاقة لكنها المسير والطرق التي تنتهجها الحياة مع كل واحد منا والتي دائمًا بلطف الله وتيسيره تضعه في مكان أفضل وخير من ذلك الذي حلم به أو تمناه ذات حين من الزمان القديم لنفسه، وهكذا أنت تشعر بوداعة وأريحية لا حدود لهما مع صيرورة أحداث الرواية وجريانها، كل شيء طبيعي للغاية وكما ينبغي به أن يكون، لا تفصيلة مغتصبة ولا صغيرة أو كبيرة ملتوية قسرًا لتناسب غيرها، وهذا الإحباط الذي قد يصيبك عند غيره من الكتاب لعدم منطقية الأحداث لن تصادفه هنا مطلقًا.