إبراهيم الزويد.. يعسوب العطاء.
هناك رجال عصاميون بالرغم من السنوات السمان التي عاشوها بين ظهرانينا، مروا أمامنا كلمح البصر. كانوا يحملون إرادات قوية، ويتأبطون أرواحًا ملائكية. هم منارات الأمل، وهم الذين يجعلونك تؤمن بأن العظمة لا تأتي من المال أو الجاه فحسب، بل تولد من نقاء الروح، وتنساب مع صدق العطاء. هؤلاء الرجال، مع كل ما حققوه من إنجازات باهرة، يبقون متواضعين في حضورهم الدائم، متصلين بجذورهم الإنسانية، ومزدانين بعقولهم الفسيحة، تلك العقول التي لم يتخذ الغرور فيها موطنًا. ترى النُبْلَ في مواقفهم، وتلمس القوة في صمتهم، وتسمع التواضع في حديثهم. إنهم رجال يؤمنون بأن القيم الحقيقية تكمن في العطاء، وأن النجاح ليس فيما يُحرز من مكاسب مادية، بل في الأثر الطيب الذي يتركونه في حياة من حولهم. أرواحهم النقية تُلْهِم مَن حولهم ليكونوا أفضل، وأفعالهم النبيلة تجعل الحياة أجمل. هؤلاء الرجال يرفعون لواء الإنسانية حيثما رحلوا، وينصبون خيام المروءة أينما حَلُّوا. لا يَدَعُون الكِبْرَ يُلَوِّث نقاء قلوبهم، ولا يسمحون للغرور أن يُعَكِّرَ صفاء تواضعهم. هم الذين صنعتهم الحياة عبر مطباتها ومنعرجاتها. يعبرون سبيلهم بإيمان عميق، ويشقون طريقهم بإصرار لا يلين، وفي كل خطوة يتركون أثرًا لا يُنسى. هؤلاء الرجال هم دعاة للمحبة، وسفراء للإنسانية. في عالمٍ مليء بالتحديات، يبرز رجالٌ كالشعلة المضيئة، يُقَدِّمون للحياة ما يجعلها أفضل ويمنحونها كل ما هو أجمل. أحد هؤلاء الرجال هو “الشيخ إبراهيم بن موسى الزويد”، الذي ولد في “مدينة بريدة” بمنطقة القصيم، وتربى في كنف الرجل العابد التقي النقي “الشيخ موسى بن أحمد الزويد” الذي كان يمشي على الأرض هونًا، ورضع مبادئ المحبة من والدته المرأة الصالحة “مريم بنت سليمان العمار” رحمهم الله رحمة واسعة تغنيهم عمن سواهم. فقد رحل “الشيخ إبراهيم” عن دنيانا – الفانية - يوم الأربعاء الـ 22/07/1446هـ الموافق 22/01/2025م، تاركًا خلفه إرثًا عظيمًا من الإنجازات الحضارية، وناقشًا أثرًا خالدًا لا يمحوه الزمن. كان “الراحل” رجلًا استثنائيًا بكل المقاييس، فقد كرَّس حياته في بر والديه، ولخدمة قيادته الرشيدة، ووطنه الغالي، ومجتمعه العزيز. تجلى نهجه في بناء الإنسان ذلك المورد الذي يُعَد هدف التنمية الأسمى ووسيلتها الأولى. مدركًا أن النهضة لا ترتفع إلَّا بسواعد أبناء الوطن، ولا تزهو إلا على أكتافهم. ومن هنا جاءت مبادراته الجريئة في تأسيس شبكة واسعة من مدارس التعليم العام، والمعاهد، والكليات الصحية، التي انتشرت خلال فترة وجيزة في جميع مناطق “المملكة العربية السعودية” حيث أصبحت هذه الكيانات موارد معطاءة، تُزَوِّد الشباب والشابات بالمعرفة، وتمنحهم المهارات اللازمة لمواكبة التطورات في المجال الطبي والصحي. لم تقتصر مبادرات “الفقيد” على قطاع التعليم والصحة – فحسب - فقد كانت له جهود خيرية واجتماعية متعددة، من خلال ذراعه الإنسانية الطويلة “ مؤسسة إبراهيم بن موسى الزويد ووالديه للتنمية الخيرية” التي تتنوع عطاءاتُها بين دعم الأيتام، ومساعدة الأسر المحتاجة، وتوفير السكن للمحتاجين، والمساهمة في بناء المساجد. جاءت جميع هذه المبادرات الخَيِّرة لتعبر عن إنسانيته النبيلة، وتترجم مشاعره الدافئة تجاه مجتمعه الذائب في حبه. قلت كل ما سبق وأنا شاهد على إنجازات “الشيخ إبراهيم بن موسى الزويد” العظيمة، فقد كان لي شرف مصاحبته في عدد من الجمعيات واللجان الخيرية والقطاعات التنموية في “منطقة القصيم” على مدى أكثر من أربعين عام، طيلة تلك الفترات، رأيت فيه مثالًا للرجل الحكيم، والمواطن المخلص، وذا الخُلُق الرفيع. لم يكن مُكَمِّلًا للصفوف أو مُعَبئًا للمقاعد فحسب، ولم يكن ضمن الاحتياط، بل كان رأس حربة في كل الميادين. كان – رحمه الله - رائدًا فذًّا وصاحب نظرةٍ شاملة، يسعى دائمًا لطرح رؤى ثاقبة، ويجتهد كثيرًا لإيجاد حلول مبتكرة. كان مجلسه يزدان بالحلم والتواضع وحب الخير للجميع، وكان وجوده مصدر إلهام لمن حوله، فلم يكن أحد يجالسه إلا ويشعر بالراحة، وتغمره السكينة. كان كريم النفس، عذب الحديث، قريبًا من قلوب الجميع، وكان له من اسمه نصيبًا وافرًا، فقد كان يحب الزيادة والسخاء في كل شيء. حقًا، إنه من الجلساء الذين لا يشقى بهم جليسهم. فلا استعراض في التمخطر، ولا زًهوًّا في النفس، ولا تَوَرُّمًا في الأنا. تُعَد مسيرة “الشيخ إبراهيم بن موسى الزويد” مصدر إلهام لأبنائه البررة، ولبناته الماجدات، ولأسرته الكريمة. جَسَّدَ قِيَم التفاني، وملأ كؤوس العطاء، وعلّمنا أن النجاح الحقيقي لا يُقاس بما نكدسه لأنفسنا من أموال، بل بما نمنحه للآخرين من عطاء. كان نموذجًا لرجل الأعمال الذي لا يسعى فقط للربح المادي، بل كان يُسْهِم في بناء المجتمع وتنميته. وبرحيله المفاجئ، فقدنا رجلًا قَلّ نظيره، لكن إرثه الإنساني الغزير، وعمله الخيري النبيل سيبقى شاهدًا على تميزه. وستظل إنجازاته الكبيرة، ومبادراته النوعية مصدرَ فخرٍ واعتزاز لكل من عرفه، ولكل من نهل من سقائه الرائب. هكذا كانت سيرة “الشيخ إبراهيم بن موسى الزويد” حياةً منقوشةً بجودة العطاء، ونهجًا مُعَتَّقًا بعطر الوفاء. حياة رَسَمَت على جدار الوطن اسمًا لا يُنسى، ونسجت في ذاكرة المجتمع قصةً تُحكى. نسأل الله تعالى أن يجعل كل ما قدمه تخليدًا لذكراه العطرة، وإثقالًا في ميزان أعماله الصالحة. “أبا عبد الله” ستبقى ذكراك العطرة حية في قلوبنا، وستظل نموذجًا يُحتذى، فأنت حادي الشهامة، ويعسوب العطاء.