على مدى خمسة عشر عاماً، كانت الإذاعة السعودية منذ تأسيسها وانطلاق خدمتها من مكة المكرمة في شهر ذي الحجة عام 1369 هـ وحتى افتتاح الملك فيصل- رحمه الله- للمشروع الإذاعي الكبير في جدة 11/8/1384 هـ، الموافق 15/12/1964 م، والمشاريع التالية- انظر (ج. 1، ص. 497-498)، على نحو لا يتصور من الضعف، إلى درجة أنها كانت بالكاد تُسمع في الرياض العاصمة، فضلاً عن بقية مدن ومناطق المملكة. ولا يمكن للقارئ أن يتصور كم المقالات التي نشرت بين عامي 1370 و1382 هـ والتي كانت تضج بالشكوى من ضعف الإذاعة في غربي المملكة- في منطقة الحجاز نفسها- فضلاً عن رداءة بثها أو انعدامه في بقية مناطق المملكة، وهي مقالات لو نشرت لإتسع لها مجلد أو مجلدان، وفي مقدمة من كانوا يتابعون بثها وتقييم برامجها صحيفة «البلاد السعودية». وها هو الكاتب المعروف عزيز ضياء- رحمه الله-، في معرض تعليقه على توقف إرسال الإذاعة لبضعة أيام في جمادى الثانية عام 24/6/1378 هـ، أواخر شهر ديسمبر 5/1/1959 م، يقول- بعد وصف الأمر بالحادث الضخم الخطير-: “وجهاز الإرسال القوي (قوة 50 كيلوات) الذي احتفلت البلاد حكومة وشعباً بافتتاحه منذ عام تقريباً ،هذا الجهاز الذي علقنا عليه أكبر الآمال، وتوقعنا أن يذيع صوتنا في منطقة الشرق الأوسط بكاملها قد أصبح صامتاً لا وجود له... ولا قدرة له على إسماع منطقة جدة ومكة فضلاً عن المنطقة كلها. وقد ظلوا- يقصد منذ بدء ارسال الإذاعة عام 1369 هـ- يرسلون على جهاز قوته عشرة كيلوات وعلى موجة طولها 25 متراً.. والحريصون على الاصغاء إلى صوت بلادهم الحبيبة ظلوا يبذلون جهداً جباراً للعثور على هذه الموجة مهما كلفهم ذلك من تبديد للوقت وبلبلة للذهن وحرق للأعصاب.. وكانوا يجدون صوت بلادهم وهم يتصببون عرقاً فإذا به أضعف الأصوات وأشدها خفوتاً”. (انظر كذلك ج. 1، ص. 391). وحول هذا التوقف، نشرت صحيفة الأضواء في 25/6/1378 هـ، الموافق 6 يناير 1959 م، خبراً يقول “في الأسبوع الماضي توقفت الجهازات (هكذا) المرسلة للإذاعة السعودية ثلاثة أيام من الموجة الطويلة .. والقصيرة معاً، وأصبحنا لا نسمع عن الإذاعة شيئاً، كأنها في إجازة أو عطلة رسمية، حتى الاعتذار في الصحف ضنت به المديرية العامة للإذاعة... ونحن لم نسمع في أي بلد من بلاد العالم أن إذاعة البلاد تتوقف زمناً طويلاً يقدر بنحو ثلاثة أيام ... وقد علمنا من جهة مختصة أن شركة كهرباء جدة قد أخطرت الإذاعة بقطع التيار الكهربائي عنها إذا لم تسدد قيمة التيار الكهربائي الذي بلغ ثلاثة ملايين من الريالات...”!! بدأت صحيفة “البلاد السعودية” في نشر جدول برامج الإذاعة بانتظام ابتداءً من 13/7/1369 هـ، الموافق 30/4/1950 م، تحت عنوان ثابت: “هنا البلاد السعودية”.، بينما افتتحت المحطة رسمياً في مطلع عام 1371 هـ، وقد أوردت الصحيفة نفسها في عددها الصادر في 1/1/1371 هـ، الموافق 2/10/1951 م خبراً عن حفل افتتاح محطة الإذاعة جاءت مقدمته كالتالي: “تحتفل الإذاعة اللاسلكية السعودية في الساعة الواحدة من مساء اليوم الثلاثاء بافتتاح محطتها من مكة المكرمة، وسيتفضل صاحب السمو الملكي الأمير فيصل نائب جلالة الملك المعظم بافتتاح الإذاعة بكلمة سامية...”. وكان الحجيلان- الذي قدر له أن يكون محور التطوير الإذاعي الكبير لاحقاً-، قد خَبِرَ واقعها، حيث كان من بين قرابة ثلاثين من المشايخ والمثقفين الشيوخ والشباب السعوديين الذين شاركوا في الإذاعة في عاميها الأولين- على سبيل التعاون-، إذ نشرت الصحيفة في جدول برامج الإذاعة في 9/6/1370 هـ، الموافق 17/3/1951 قصة قصيرة له بعنوان “صراع مع الشيطان”، ولم يورد صاحب المذكرات هذه القصة ضمن القصص التي ذكرها في مذكراته (ج.1، ص. 118). والعجيب أن إمكانية الاستماع إلى البث الإذاعي من أوروبا منذ بداية الحرب العالمية الثانية في الشرق العربي، وفي بقية أنحاء الخليج والجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام كانت متاحة بسهولة. ومثال ذلك الخدمة العربية لإذاعة برلين التي كانت- وصوت فارسها الصحفي الأسطورة يونس بحري- تُسمع بوضوح في المنطقة. ووصل تأثير هذه الإذاعة في البحرين- التي كان يُونس بحري يستهل برامجها بعبارته الشهيرة “هنا برلين: حي العرب”، وصل حداً جعل المستشار البريطاني القوي في البحرين تشارلز بلجريف يأمر منذ بدايات الحرب العالمية الثانية بإلصاق تحذيرات مكتوبة في الأسواق والمقاهي في المنامة والمحرق، تُنذر من يضبط متلبسا بالاستماع إليها إما بالسجن مدة شهرين أو بغرامة 60 ربية- العملة المتداولة آنذاك في الهند وإمارات الخليج والعراق...- أو بكلا العقوبتين معاً. وأذكر مما قاله لي الباحث والمؤرخ البحريني الراحل مبارك الخاطر- رحمه الله- في مقابلة معه عام 1992 م أن مجموعات من البحرينيين كانت تتحلق في المساء سراً حول أجهزة الراديو في بعض البيوت لتستمع -والسُرُجُ مطفأة- لإذاعة برلين، وأن الناس كانت تتناقل في اليوم التالي فحوى خطابات بحري وعباراته اللاذعة، ومنها- عندما أعلنت إمارة شرق الأردن دخول الحرب ضد دول المحور- قوله: “حَرَّكّت إمارة... أساطيلها في البحر الميت”. والعجيب كذلك هو أن إذاعة برلين انتقدت “ البحرين”، الصحيفة الوحيدة التي كانت تصدر في البحرين انتقاداً لاذعاً ومتكرراً، ودخلت معها في ملاسنات طريفة. ولم يكن يونس بحري مدفوعاً في تعليقاته الإذاعية الملتهبة بالإعجاب بهتلر أو الحماس بالنازية بقدر ما كان مملوءً بالكراهية للإنجليز الذين احتلوا بلاده- العراق- واحتلوا بلاداً عربية أخرى بما فيها فلسطين. وأول اشتباك بين الإذاعة والصحيفة حدث في شهر أغسطس 1939 م، إذ نشرت الصحيفة في العدد 23، الصادر في 31 من ذلك الشهر تعليقاً طويلا من ضمن ما ورد فيه قولها: “طالعتنا إذاعة برلين مساء السبت الماضي بإذاعة طويلة عن “جريدة البحرين” قالت فيها إنها ما كانت تحب أن ترد على جريدة عربية، وإن جريدة عربية تصدر في البحرين يجب أن تكون رمزاُ للإخلاص والوطنية وأن لا تجعل نفسها آلة صماء في أيدي المستعمرين... وجريدة البحرين لا ترد على هذه الإذاعة بالتفصيل، ولكنها ترد على النقطة الأساسية في الموضوع فتقول: إن على ألمانيا أن تفتش لها عن أصدقاء في غير بلاد العرب فتدافع عنهم لتكسب صداقتهم. أما العرب فإنهم حلفاء طبيعيون للإنجليز”. ومن نافلة القول أن عقدي الأربعينيات والخمسينيات الميلادية ومعظم عقد الستينيات على وجه الخصوص كانت فترة تًسَيُّد الإذاعة بلا منازع. ومعروف حجم النفوذ والتأثير منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي لإذاعات مثل إذاعتي القاهرة وصوت العرب وإذاعة بغداد في العالم العربي، فضلاً عن إذاعات أخرى كانت حاضرة بقوة مثل إذاعة الشرق الأدنى البريطانية التي كانت تبث من قبرص... فهل تمكنت الإذاعة السعودية لاحقاً من تحقيق تواجد قوي محلياً وفي الساحة العربية- ابتداءً من النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، الستينيات الميلادية- وحتى مجيء عصر القنوات الفضائية وخصوصاً القنوات الإخبارية؟ ذلك ما سعى صاحب المذكرات من موقعه كوزير إلى تحقيقه بدعم الملك فيصل وتأييده؛ وهي جهود- بما تحقق من خلالها وبما فيها استحداث خدمات إذاعية باللغة الإنجليزية والفرنسية- كانت تتطلب ممن أتوا بعده مواصلة البناء عليها. الدخول إلى “عصر التلفزيون” معروف ما ورد في تصريح الملك فيصل عند الإعلان الوزاري في 9/8/1382 هـ عن اعتزام الدولة توفير وسائل التسلية والترفيه البريء. وفي مطلع عام 1383 هـ، الموافق لشهر مايو 1963 م، أي بعد شهرين من تعيينه وزيراً للإعلام، ذكر الحجيلان (ج. 1، ص. 498) أن الأمير فيصل أخبره بأنه تحدث مع السفير الأمريكي عن عزمه إنشاء شبكة تلفزيون عامة في المملكة العربية السعودية. وبعد عام وشهرين من العمل المتواصل والتحضيرات المكثفة انطلق بث التلفزيون السعودي من محطة جدة، بعد ظهر يوم السبت 18 ربيع الأول 1384 هـ، الموافق 17 يوليو 1965 م، وسُمي بثاً تجريبياً- كما يقول الحجيلان- “ تجنباً لردود الأفعال، وترويضاً للاندفاعات...”. وتبعه بعد أقل من ثلاثة أسابيع انطلاق البث- التجريبي- من محطة تلفزيون الرياض، مساء يوم السبت 10 ربيع الثاني 1385 هـ، الموافق 7 أغسطس 1965 م (انظر عدد صحيفة “الرياض” رقم 85، بالتاريخ نفسه). وقد روى الحجيلان في مذكراته تفاصيل مهمة عن فترة تأسيس التلفزيون السعودي (ج. 1، ص. 498-532)، تفاصيل كادت أن تفقد، وتمنيت لو أنه كتبها قبل ثلاثين أو أربعين عاماً من نشر مذكراته، ليستفيد منها القراء والباحثون وطلاب الإعلام. إنها قطعة ثمينة من تاريخ بلادنا القريب. ولست في حاجة- بل لست بقادر- على أن أزيد على ما قاله. غير أن ما استرعى اهتمامي خلال حديثه عن مرحلة تأسيس التلفزيون هو تلك الخشية، وذلك التوجس من تقبل المجتمع لهذه الوسيلة الجديدة التي أدخلت الصورة المتحركة في المجتمع، وهو مجتمع كان القلة فيه إما ترفض الصورة الفوتوغرافية الثابتة أو تبدي تحفظاً تجاهها. فما بالك بإدخال تمثيليات ومسلسلات بل وأغانٍ فيها عنصر نسائي !!. ما ذكره الحجيلان عن البيئة المحافظة التي ظهر فيها بث التلفزيون السعودي من محطتيه في جدة والرياض... جعلني استعيد قراءة ما كنت قد دونته من معلومات قبل خمسة وثلاثين عاماً، وكتبته عن تلفزيون أرامكو قبل ثمانية عشر عاماً تقريباً ونشر في مجلة “الإعلام والاتصال”، تحت عنوان “تلفزيون أرامكو.. مرآة أرامكو السحرية”، في العدد 104، الصادر في صفر 1428 هـ، الموافق لشهر فبراير 2007 م. والموضوع خلاصة لبحث عن تلفزيون أرامكو من الظهران الذي بدأ بثه مساء يوم الاثنين 21 صفر 1377 هـ، الموافق 15 سبتمبر1957، وهو بث كان يشاهد آنذاك بسهولة في الخبر والدمام والبحرين. خلال ذلك البحث الذي تضمن مقابلات مع شخصيات عملت في تلفزيون أرامكو مثل إسماعيل الناظر المحامي وفهمي بصراوي، وكذلك رئيس تحرير صحيفة “الخليج العربي” الأستاذ عبدالله شباط- رحمهم الله-، وقراءة ما نشر في تلك الصحيفة عن ذلك التلفزيون، بالإضافة إلى ما نشر لكتاب وقراء زاروا المنطقة الشرقية ونشروا انطباعاتهم في “اليمامة” و”القصيم” عن زياراتهم لمدنها، بما فيها انطباعاتهم عن المحطة وبرامجها، لم ألحظ أي أخبار أو انطباعات تدل على التحفظ تجاه هذه الوسيلة الإعلامية، بمحطتيها العربية- التي توقفت مع بدء ارسال تلفزيون الدمام في 27/8/1389 هـ، الموافق 6/11/1969 م، والإنجليزية التي توقفت بقرار من الشركة في 13/9/1419 هـ، بعد تكاثر القنوات الفضائية. التحفظ الوحيد وجدته في مقال نشر في صحيفة “الخليج العربي” بقلم سكرتير تحريرها الأستاذ علي أحمد بوخمسين، عنوانه: “نحو ثقافة فنية: نحن... وتلفزيون أرامكو”، تضمن ملاحظات على بعض التغيرات الاجتماعية والظواهر التي استجدت في المجتمع- الأسرة والأطفال- بفعل دخول التلفزيون وبرامجه في مجتمعنا، فضلاً عن كون تلفزيون أرامكو- حسب قوله- “يعرض عن الحياة في أمريكا أكثر بكثير من البرامج التي تعرض عن بلادنا.” (الخليج العربي، العدد 104، في 14/10/1380 هـ، الموافق 30/3/1961 م). ولا شك أن الآلاف من السعوديين من مختلف مناطق المملكة الذين قدموا إلى مدن المنطقة الشرقية، سواءً للعمل في الوظائف الحكومية أو للتجارة أو للعمل في أرامكو، قد ألفوا مشاهدة التلفزيون وعاشوا تجربته قبل قدوم التلفزيون السعودي بعدة أعوام. الملك فيصل والحجيلان والإعلام الخارجي تحدث الحجيلان (ج. 1، ص. 476-496) عن استحداث خدمة إذاعية باللغة الإنجليزية ثم باللغة الفرنسية، وتحدث كذلك عن الاهتمام بالأفلام الإعلامية عن المملكة، وعن الجهود التي بذلت لإنتاج عدد منها بأعلى مستوى متاح آنذاك، نصاً وتصويراً، ولفت انتباهي في هذا السياق ما نشرته بعض الصحف في شهر ذي القعدة 1383 هـ- مارس 1964 م- من “أن وزارة المعارف (نعم وزارة المعارف) تجري... اتصالات سريعة للحصول على عدد كبير من الأفلام الثقافية التوجيهية لعرضها في الدور السينمائية التي ستفتتحها الوزارة بالمنطقة الوسطى والمنطقة الغربية”!!. إلا أن هنالك جهداً لم يتطرق إليه الحجيلان ولو بإشارة عابرة، رغم أنه جهد ضخم استهلك بلا شك جزءً ثميناً من وقته ووقت العاملين معه خلال الأعوام الثلاثة الأولى من توليه مسؤوليات الوزارة، وهو جهد أفاد البلاد وحظي بتشجيع من الأمير ثم الملك فيصل، خلال الفترة التي كان فيها نائباً للملك ثم مليكاً للبلاد. ذلك الجهد هو تنظيم زيارات لوفود إعلامية- صحفية وتلفزيونية- من كل الدول العربية تقريبا ومن مختلف دول العالم لزيارة المملكة. تلك الوفود التي قدمت إلى المملكة تباعاً ابتداءً من أواخر عام 1383 هـ وتزايد عددها خلال عامي 1385 و1386 هـ... حظيت جميعها تقريباً بشرف مقابلة الأمير ثم الملك فيصل- رحمه الله-، ونُشرت أخبار وصور مقابلاته معها في الصفحات الأولى والأخيرة، في صحيفتي “المدينة” و”البلاد” على وجه الخصوص. ويضاف إلى تلك الزيارات المقابلات العديدة التي أجرتها مع الملك فيصل وكالات الأنباء العالمية وكبرى الصحف والمجلات الأوروبية والأمريكية، فضلاً عن الصحف والمجلات العربية. كل ذلك كان حراكاً إعلامياً كثيفاً وكبيراً تمنيت لو أن الحجيلان تطرق إليه. وذلك كان جهد دولة تحقق بإرادة ووعي ملك كان خير من يدرك أهمية التواصل مع الإعلام العربي والدولي، وهو جهد وزير ووزارة قامت بدور حظينا نحن القراء بالاطلاع على بعض صفحاته في هذه المذكرات.