طفولة نستدعيها ونقاوم بها شدائد الحياة.
من أوهام الكهولة القابلة للدحض، تصورنا للطفولة أن أطيافها ثاوية فقط في تجاويف الذاكرة. نستدعيها كل حين، فتستجيب بسهولة لاستدراجنا لها متى ما شئنا من أجل اجترار لحظات البهجة والمرح. وننظر إليها، باعتبارها ماضياً لمرحلة ابتعدنا عنها طويلاً بمسافة عِداد السنين، مضت ولم تترك أثراً يذكر على مسيرة حياتنا. لكن الواقع يبرهن لنا أن تأثيرها أبعد مدى من مجرد أطياف عابرة، وحنين إلى زمن كان يمدنا بالأخذ دون العطاء، خلواً من أية مسئولية والتزام حياتي مبهظ. فهي في كوامنها تتسرب إلى أفعالنا وتقود خطانا ومبادراتنا دون أن نشعر. مكر الطفولة، شغب العالم: لا أعلم كيف تمت برمجتنا على قناعة الحنين دون الأثر للزمن الطفولي، أهي من فخاخ الطفولة حتى تبعد عن نفسها تهمة إخفاقنا في بعض قراراتنا طوال مسيرتنا الحياتية والتي كان يفترض فيها الرشد؟ أم هو ردة فعلنا- كذكور- على ما أوحته الحركة النِسوية في نظرتها للرجل، وعند عزفها على سمفونية طفولته، وأن بداخل كل رجل طفل لا يكبر، وبالتالي، على المرأة الذكية، استدراجه ورشوته بقطعة حلوى كلما تمرد!؟ كبرنا، فزالت العوالم الأسطورية؛ وهربت الأشباح، وفقدنا جني المزارع “دعيدع” وأُفرغت ظهريتنا من الغولة “حمارة القايلة” واعتزلت الأخرى “أم السعف والليف” عن مهماتها كرها أو طواعية؛ لنبقى في مواجهة عالم أكثر تجريدا وأقل معنى. فالطفولة هي مصنع الخيال الأول ومنتجه، حيث بسبب قصر قاماتنا، حينها، تخيلنا كائنات عملاقة وعوالم شيدت برغبة الأحلام؛ يسهل تكوينها بمجرد الإلحاح في التمنيات. وبانتهاء حقبتها، وانقضاء فترتها المعهودة، أصبحنا أكثر نضجاً، لكن عند الشدائد يخرج لنا الطفل الذي كناه، فاتحا لنا مسالك بديلة، ومسارات تعويضية؛ يمدنا بها على شكل أحلام يقظة أحيانا، أو على هيئة مفاهيم ميتافيزيقية لا يتوجب عليها تفسير مواقفها اتجاهنا، والتسليم بها لمحدودية إدراكنا. فيها نفرغ قلقنا، وتمتص بدورها كل إحباط لدينا لعدم تحقق مخططاتنا ومشاريعنا الحياتية وتعثرها. المؤكد، أن شخصيتنا تمت قولبتها وتنميطها في عهد مبكر، ومنذ زمن الطفولة الأول. ففيها انبنت قناعاتنا وتشكلت معتقداتنا الحالية، وحددت كذلك منظورنا للحياة، والمهم أنها ما زالت مسايرة لنا وحافة بكل آمالنا. قد نختلف ونجادل كل ما سبق من ادعاءات على العهد الطفولي، لكننا نفترض وبشواهد عديدة؛ الاتفاق على أن كل الفنون والآداب لا تخلو من حس طفولي في تفعيلها للخيال والانطلاق منه إلى محاكاة العالم الواقعي، أو إعادة خلقه وتكوينه بصيغة مشتهاة. فكل وصف فنتازي أو لوحة سوريالية نجد عليها أثرا طفوليا شاطحا في الخيال. ضحكات طفل، هزيم الرعد: تندفع خطانا بطبيعة تكوين أقدامنا - تلقائياً - نحو الأمام، وكذلك مجال تفكيرنا اللحظي المهموم بمستقبله؛ فهما يقوداننا على عجل للحاق بمحطات في الحياة نستشرفها ولا نعي طبيعتها إلى حين الوصول. قليلاً ما ننعطف ونستدير بكلنا نحو الماضي، وإن حصل، فيكون تلبية لعواطف غير مشبعة غادرناها على عجل ولم تأخذ حقها من الاهتمام، أو لجروح في الروح لم تندمل أجلنا ضمادها ومداواتها إلى حين. فللماضي استحقاقه الذي يصر على استيفائه بآلية التذكر عند اصطدامنا بمماثلة المواقف أو مرور لأطياف الشخوص.. أو بتحفيز من تفكير طفولي. فالشاعر الإيرلندي رونالد ستيورات توماس في نصه “ذكريات” (ترجمة د. حسن مرحمة) يصور لنا تلك الانعطافة القسرية نحو الماضي؛ الذي أخذ بتلابيب روحه وقاده نحو عتمة مطبقة من الألم والمعاناة: «بالطبعِ أتذكَّرُ الآنَ، قالَ ولكن السنينَ انتفضتْ عليهِ ثم تراجعت عيناهُ إلى الوراءِ وعقلُهُ كذلك؛ منعطفاتٌ من الماضي على الشارعِ، إنها منعطفاتُ تاريخٍ مضَى تلتفُ زوايا النفس الضائعةِ في ظُلمةِ القلبِ وظُلمةِ الأحشاءِ». ما يحدث في الحقيقة - بالنسبة للشاعر - وعند هذا المستوى النفسي من التأزم وانغلاق الأفق، هو الحالة التي عناها الناقد الأمريكي هارولد بلوم ووصفها بـ “القوة الشعرية الهائلة” التي تحدث كنتاج للدمج بين عمليتي “التفكير والتذكر”. ومن جهة أخرى تمده حينها، بطاقة وعي مغايرة - كما يقول كارل يونغ - وذلك عندما تعمل هذه الطاقة على «تخفيض المستوى العقلي، وهي حالة شائعة جداً لدى الفنانين، وتطور تراجعي للوظائف الواعية، أي تنكص إلى مستوى قديم وطفولي». إذن هي انتفاضة بأسلوب طفولي على حاضره تقوده قسراً إلى ماضيه، ولطبيعة العمل الفني أيضاً، والذي يصبح متجذراً، ليس في اللاوعي الشخصي للشاعر فحسب، بل وفي فلك الأسطورة اللاواعية التي تشكل صورها القديمة - كما يقول يونغ - «الميراث المشترك للجنس البشري بأكمله، وهي إمكانية وهبت إلينا من أزمنة قديمة في شكل معين من الصور الذكرياتية أو الموروثة في بنية تشريحية في الدماغ». شاعرنا الإيرلندي في المقطع التالي من النص يقول بما يدعم ذلك الادعاء في حديث يونغ: «تراجعت عيناهُ وعقلُهُ إلى الوراء وإلى الوراء إلى أن نُوديَ في اختلاجِ الخوفِ؛ كان يستمع لحظتها لفوضَى القرونِ وعراكِ اللسانِ عن أصول الجنسِ البشريَّ وأصولِ القبائلِ ونبضاتِ الرعدِ». أثر الطفولة إذن، ليس مجرد ذاكرة وحنين فحسب؛ إنما نمط في التفكير والرؤية يغشينا كل حين. الوعي الفطري بالذات والعالم الذي يعيد إلينا التوازن حين تصحر الحياة وجفاف ينبوعها. فمن أين لنا بهدهد محمود درويش ليعيدنا إلى عهدها لنقيم فيه من جديد: «يا هدهد الأسرار جاهد كي نشاهد في الحبيب حبيبنا، حلق بنا، لم تبق منا غيرُ رحلتنا إليه، ودلنا يوما على شجرٍ وُلدنا تحته، وعلى الطفولة دلنا ولعلنا سنطيرُ في يوم من الأيامِ ... إن الناس طيرٌ لا تطير».