في كتاب «ملاحظات حول المقاومة»..

محاولة نبيلة لإصلاح أمريكا.

هذا الكتاب هو حصيلة تسع جولات حوارية، أُجريت مع نعوم تشومسكي على مدار عامين بدءا من مارس ٢٠١٩، نشرت الطبعة العربية الأولى في يناير ٢٠٢٣ م. نعوم تشومسكي عالم لسانيات ومؤرخ وفيلسوف أمريكي يهودي، اشتهر بنقده للسياسة الأمريكية داخليا وخارجيا، وهو عادة ما ينتقد التوحش الرأسمالي الذي يقود إلى جعل السياسيين الكبار أداة في أيدي رجال الأعمال، وخاصة شركات صناعة السلاح، وفي هذا الكتاب يركز نقده على إهمال أمريكا لما بات شائعا عن مخاطر الاحتباس الحراري، وصراعها المبالغ فيه مع الصين الذي لم يؤد فقط إلى الإنفاق الباهظ على التسلح، بل أدى إلى التعامل بكفاءة منعدمة مع وباء كورونا لأنها مؤامرة صينية كما يعتقد سكان البيت الأبيض. كما ينتقد أمريكا لوقوفها في وجه معاهدات منع انتشار الاسلحة النووية رغم أنها تشن حربا على إيران لأجل منعها من تطوير سلاحها النووي، وينتقد تدبير أمريكا انقلاباتِ عسكرية ضد أنظمة منتخَبة في أمريكا الوسطى. المحاور ديفيد بارسميان أمريكي من أصل أرمني، مؤسس محطة الاذاعة البديلة، واسمها يوحي بأنها تختلف عن باقي الإذاعات، باعتبارها مستقلة تتبنى خطا لا يخضع لما تخضع له وسائل الاعلام الاخرى من سلطة الشركات. المترجم محمد جياد الأزرقي أستاذ جامعي للغة الانجليزية، له عدة كتب مترجمة، لكن هذه الترجمة تكتب الأسماء الأجنبية بشكل مختلف قليلا، مثلا اعتدنا كتابة اسم الرئيس الأمريكي، ريجان، هنا تكتب ريكن، واسم وزارة الدفاع الأمريكية اعتدنا على أن نسميها البنتاغون، لكنها تكتب هنا بنتكون، وهذا يجعل القراءة صعبة نوعا ما. ولكن المترجم يكتب مقدمة ضافية تعرض أفكار الكتاب الرئيسية. أما المقصود بالمقاومة هنا فهو ما يمكن فهمه من خلال السياق التالي: يقول تشومسكي إن الهيئة الدولية للمناخ قامت بإصدار تقرير شارك في كتابته مئتا عالم في ثلاثة آلاف صفحة، حذر التقرير من المخاطر التي يواجهها كوكب الأرض، من المرجح أن يرتفع متوسط درجات الحرارة بمقدار ١,٥ درجة مئوية بحلول عام ٢٠٤٠، وبالتالي نحن ماضون في تدمير الأشياء التي تعتمد عليها حياة الكوكب، أغطية الجليد والأنهار الجليدية تستمر في الذوبان، وارتفاع مستويات سطح البحر يتسارع، والمحيطات تحتضر والتنوع البيولوجي ينهار، يجب أن نتحرك قبل أن تقع الكارثة. رغم كل هذه التحذيرات رفضت الادارة الأمريكية الانضمام إلى بروتوكول كيوتو حول المناخ. لوقف الضرر على الكوكب يجب عدم التوسع في استخراج الوقود الأحفوري (الفحم الحجري والبترول والغاز). ورغم ذلك تواصل حكومة الولايات المتحدة تقديم الإعانات لشركات الوقود الأحفوري، بدلا من استعمال الطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية مثلا). وهنا يعرض فعلا من أفعال المقاومة، ولاية فرجينيا الغربية تعتمد على إنتاج الفحم، اقترح اتحاد عمال المناجم للانتقال من الفحم الذي يشكل اقتصاد الولاية، والتحول نحو الطاقة المتجددة، لديهم القدرة على فعل ذلك، أخذوا بعين الاعتبار احتياجات العمال الذين سيتأثرون بفقدان وظائفهم على المدى القصير. ولذا وفروا التدريب خلال فترة الانتقال، ستكون هناك أنواع جديدة من الوظائف الأفضل متاحة. يشيد تشومسكي بهذا المشروع، الناس تهتم لأنهم يريدون حماية صحة أطفالهم وحماية بيئتهم. ويعطي مثالا آخر عن المقاومة. ارلى هوشيلد مؤلفة كتاب “غرباء في أرضنا “، تتحدث عن منطقة تسمى “ زقاق السرطان”، العديد من الناس يموتون بالسرطان نتيجة التلوث بالفضلات الكيميائية التي تطرحها معامل تكرير الوقود الأحفوري، عملت هوشيلد مع أشخاص متخصصين في البيئة على تنظيف المكان والابتعاد عن الصناعات التي تلوث البيئة. من وجهة نظر الإمبراطورية الأمريكية كان غزو أفغانستان خطأ، قرر جورج بوش الابن ورجال الحاشية أمثال دونالد رامسفيلد غزو أفغانستان دون هدف استراتيجي، عرضت طالبان التخلي عن فلول القاعدة الموجودة في أفغانستان، رد رامسفيلد: إننا لا تتفاوض من أجل الاستسلام. أجرت إحدى الصحف الأمريكية لقاء مع عبد الحق، الذي يصفه تشومسكي بأنه أكثر شخصيات المقاومة المحترمة المناوئة لطالبان، سأله الصحفي: ماذا كان يعتقد سبب الغزو الأمريكي؟ قال: إن الولايات المتحدة تستعرض عضلاتها لتحقيق نصر سريع وتخويف للعالم. إن الغزو الأمريكي يدمر الجهود الممكنة لتقويض طالبان من الداخل، لم تهتم أمريكا بحياة الأفغان ولم تكترث بمن يفقدون حياتهم. أصبحت الحرب الإلكترونية وسيلة مهمة الهجوم، أهم حرب الكترونية ما قامت به إدارة أوباما ضد إيران، ودمرت به الكثير من قدرات إيران النووية، لا تستطيع إيران حاليا أن ترد، ولكن الحكومات الأخرى انتبهت والكل يحاول الوصول إلى القدرة لشن حرب الكترونية، وهذا يشعل منافسةً تكلف الكثير. لا زالت الحكومة الأمريكية تمارس حصارا قاتلا على إيران، إمكانية وصول إيران إلى سلاح نووي أمر مزعج للجميع، وتختلف الحكومات الأمريكية في إدارة هذا الملف، لكن هناك حل سهل في رأي تشومسكي، وهو ما تقدمت به مصر للأمم المتحدة، ويقضي بأن تُعلن منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي، وقد وافقت إيران على ذلك، توقيع الاطراف على هذه المعاهدة ينقذ الجميع، ويخفف التكلفة، ولا يقتضي الأمر إلا المراقبة، لكن أمريكا لم توافق على ذلك، لماذا؟ لأن تنفيذ هذه المعاهدة سيظهر أن اسرائيل تملك سلاحا نوويا، وهذا ما لا تريد أمريكا أن تعترف به، القوانين الأمريكية تمنع منح مساعدات لأي دولة لديها سلاح نووي، ولو قبلت أمريكا حقيقة أن إسرائيل تملك هذا السلاح فإن المفروض أن تمنع عنها المساعدات. هناك معاهدة طرحتها الأمم المتحدة لمنع إنتاج الأسلحة النووية، وقعت عليها ١٢٢ دولة، ليس من بينها أي دولة تمتلك هذا السلاح، يتساءل لماذا لا توقع عليها أمريكا؟ إن توقيع أمريكا يضغط على الآخرين للتوقيع. لا تريد أمريكا التعهد على منع الاسلحة النووية في أفريقيا، لماذا؟ لأن بريطانيا تحكم جزيرة دياكو كارسيا، تم طرد أغلب سكان الجزيرة، ثم تم تأجيرها للولايات المتحدة في عهد أوباما. قامت أمريكا بجعلها قاعدة عسكرية نووية. وكذلك تحتفظ أمريكا بأسلحة نووية على سواحل اليابان ولذلك لا توافق على جعل المحيط الهادي منطقة خالية من السلاح النووي. أبلغت الصين العالم كله ومنظمة الصحة العالمية كل ما توصلت له عن فيروس الكورونا، حدد العلماء الصينيون الفايروس وتسلسله الجينومي، وفي الحال أصبح كل عالم ذي صلة في جميع أنحاء العالم يعرف ما يحدث وما ينبغي عمله حيال هذا الأمر، وقامت دول كثيرة باتخاذ الاحتياطات اللازمة في الحال، لكن أمريكا حولت الأمر إلى لعبة سياسية، وبدأ البيت الأبيض يصدر تقارير يومية عن الموضوع، عن الصين التي أُمسك بها متلبسةً بالجريمة بعد نشرها الأكاذيب، ومنظمة الصحة العالمية التي تسترت على موقف الصين المشين. عدد كبير من السكان اعتقد أن الوباء مجرد خدعة أرسلتها الصين لتدميرنا، حاول مسؤولو الصحة الكبار إيضاح حقيقة الأمر، الوقت لا يحتمل المهاترات، لكن ساكن البيت الأبيض لم يستمع. خلال شهرين كان عشرات الآلاف من الأمريكان يموتون بالفعل، وأصبح الوباء خارج السيطرة. وبدأت سلسلة من الأفكار المأساوية، في يوم من الأيام اعتبرت الجائحة حالة برد شديدة يمكن السيطرة عليها. وفي اليوم التالي قيل إنه وباء وأن ساكن البيت الأبيض أول من انتبه إليه، وفي اليوم الثالث تم إغلاق بعض المحلات والخدمات، وفي اليوم الرابع جاء الأمر بفتحها ثانية بحلول عيد الفصح… سلسلة إجراءات تتسم بانعدام الكفاءة. في بعض الفترات جرت محاولات كبرى للتواصل مع العلماء الصينيين الذي اكتشفوا فيروسات الكورونا، والعمل على طرق الحماية، ثم غلبت الأفكار المناهضة للصين، أُوقف التعاون مع الصين، وبدأ التنديد بمنظمة الصحة العالمية، وتم إلغاء تمويلها، تم الضغط على كثير من العمال للعودة إلى أعمالهم، دون احتياطات كافية، أصبحت الولايات المتحدة الأولى في العالم من ناحية عدد الإصابات والوفيات، تتلوها بالترتيب الهند، ثم البرازيل، ثم روسيا. سياتل إحدى الولايات التي تمت السيطرة فيها على الفيروس باتباع سبل الحماية التي أخذت بها استراليا وتايوان وكوريا الجنوبية، تمت دراسة قارنت الوضع في سياتل مع الوضع العام، وخلصت الدراسة إلى أنه لو تم التزام إجراءات سياتل في باقي الولايات الأمريكية لأمكن إنقاذ ثلاثمائة ألف إنسان. احتكرت امريكا وكندا والدول الأوروبية اللقاحات ضد الكورونا بشكل أساسي، ولديهم احتياطيات زائدة عن الحاجة حاليا وفي المستقبل، وهناك نقص حاد في المتوفر من اللقاحات للهند وأفريقيا وأمريكا الوسطى. حتى شهر سبتمبر عام ٢٠٢١ كان عدد ضحايا كوفيد في أمريكا سبعمئة ألف إنسان، وبلغت نسبة من حصلوا على اللقاح نسبة أربعة في المئة من سكان أفريقيا، يعنى هنا أن أمريكا لم تحم مواطنيها ولم تساعد في توفير اللقاح للدول الفقيرة. للأسف أمريكا منعت البرازيل وهندوراس من استعمال اللقاح الصيني واللقاح الروسي رغم أن كل المؤشرات كانت تظهر أن فاعليته لا تختلف عن فاعلية أنواع اللقاحات الأخرى. لماذا تخشى أمريكا من الصين؟ حققت الصين مكاسب غير مسبوقة في مجال التنمية الاقتصادية، لكن لديها مشاكل هائلة، وهي بلا شك خلف الغرب من حيث التنمية. إذا كنا نستخدم تكافؤ القوة الشرائية كأحد التدابير فإن الصين تملك أكبر اقتصاد في العالم، في القرن الثامن عشر كانت الصين أكبر اقتصاد في العالم أيضا فلم يحمها ذلك من الوحشية الأوروبية والأمريكية! لم يحمها مثلا من حرب الأفيون. عدد سكان الصين خمسة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة، وبالتالي من حيث نصيب الفرد فهي أقل من أمريكا بكثير، لو أخذنا التنمية البشرية حسب جداول الأمم المتحدة الموضوعة وفق مقياس شمل عوامل مختلفة من التنمية البشرية تأتي الصين في المرتبة ٩٠ على مستوى العالم. تحاول أمريكا إعاقة التنمية الصينية حتى لا تنافسها في يوم من الأيام، ولكن هل هذا هو الصحيح؟ الصحيح أن يتم التعاون بينهما من أجل الصالح العام، “ يجب أن ندين جرائمهم كما ندين جرائمنا”. ثم يدلي بملاحظة مهمة يقول: أمريكا تدين بشدة انتهاكات الصين حقوق الإيغور المسلمين، لا تستطيع أمريكا أن تفعل أكثر من ذلك فهي لن تشن حربا لأجلهم على الصين. لكن هناك مليوني شخص نصفهم أطفال مسجونين في غزة بمساعدة أمريكية سخية، نستطيع فعل الكثير لهم لأن أمريكا هي التي تمول الانتهاكات وتنفيذها في غزة. ويختم: لكننا في أمريكا لا نتحدث عن هذا الموضوع. وقعت الولايات المتحدة الأمريكية على اتفاقيات المحكمة الجنائية الدولية، ولكن الكونغرس لم يصادق عليها، أمريكا تتصرف بصرامة لمنع المحكمة الجنائية الدولية من القيام بأشياء لا تقبلها واشنطن، فهي مثلا تعترف بالإبادة الجماعية للأرمن لأنها جريمة شخص آخر، لا يوجد اعتراف بإبادة سكان أمريكا الأصليين، التقديرات تقول إن سكان أمريكا الأصليين كانوا مائة مليون أبيدوا لدرجة أنه لم يبق منهم إلا ربع مليون، لم تهتم أمريكا باتفاقية الإبادة الجماعية لمدة أربعين عاما، بعدها وقعت مع التحفظ باستثناء، يعنى إعفائها من التبعات والمساءلة، تحت إدارة جورج بوش الأب تم إقرار التشريع الخاص الذي يسميه الأوروبيون “ قانون غزو هولندا”، و هو قانون يعطى السلطة التنفيذية في أمريكا الحق في إنقاذ أي أمريكي يتم إحضاره إلى مدينة لاهاي الهولندية لمحاكمته من قِبل المحكمة الدولية، الولايات المتحدة الأمريكية وحدها لديها الحق في ذلك دونا عن بلدان العالم الأخرى. هل تستطيع كلمات تشومسكي أن تساعد في صلاح أمريكا التي في صلاحها صلاح العالم.