«ناسك الشخروب» في غمار الحرب.
“ناسك الشخروب” لقبٌ أُطلق على الأديب “ميخائيل نعيمة”، بعد عودته من هجرته الأمريكية عام 1932، إذ كان أحد أعمدة أُدباء المهجر والرابطة القلمية، استقرّ قُرب مسقط رأسه “بسكنتا”، وبالتحديد على تلّة خارجها تٌسمّى “الشخروب”، فبنى كوخاً هناك واعتزل فيه قارئاً ومُفكّراً ومُتأمّلاً، وهناك ألّف عدداً كبيراً من كُتبه. وكان قد هاجر إلى الولايات المتّحدة عام 1911، واستقرّ مع أخويه في مدينة “والا والا” بولاية “واشنطون”، وحين قامت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، دخلتها الولايات المتّحدة بعد سنتين وشهرين، وبصفة “نعيمة” مواطناً أمريكياً، استُدعي وأخوه للخدمة في الجيش. وأفرد “نعيمة” صفحات من سيرة حياته في كتاب “سبعون” المُكوّن من ثلاثة أجزاء، لوصف تجربته القاسية ومُشاهداته المريرة أثناء خوض معمعة الحرب وأهوالها. لقد تساءل وقتها عن شعور والديه في الوطن لو هُما دريا بتجنيد ابنيهما في الحرب، ولكنهما لا يدريان وتلك نعمة من الله، ولن يُدريهما حتى تضع الحرب أوزارها.. فإما يدريان أن ابنيهما قد تشوّها، أو قضَيا في سبيل الواجب، فيتولّى الله ثم الزمان مُداواة قلبيهما، وإما يدريان أن ابنيهما قد خاضا غمار الحرب وعادا منها سالمَين، فيُقبّلان الثرى ويهتفان: “نشكُرك يا ربّ ونحمدك”. وبعد يومين من السفر بالقطار، وصل خليط المُجنّدين المُعدّ لتسيير آلة الحرب إلى المُعسكر في طرف بريّة شاسعة من ولاية “نورث كارولاينا”. والضُبّاط الذين استقبلوهم لم يبتسموا لهم ولم يُصافحوهم، ولم يخطر لأيّ منهم أن يسألهم عن سَفرتهم الطويلة كيف كانت، وعمّا يجول في خاطر كلّ منهم! فالمُهمّ بالنسبة لمن استقبلوهم ليس ما يحملونه في رؤوسهم وقلوبهم، بل المُهمّ أن تكون لهم عضلات تتحرّك، وعيون وآذان تُبصر وتسمع، وأرجل تُحسن المشي، وظُهور تقوى على الحمل، وأيدٍ تُجيد الضرب بالحربة، والضغط على زناد البارودة والرشّاش والمدفع! وبعد المٌعسكر أقلّتهم باخرة ضخمة مُتعدّدة الأجواف، في طريقها إلى أحد موانيء “فرنسا”. وكانت الباخرة واحدة من ثلاث عشرة باخرة تحمل قرابة خمسين ألف جندي، وتسير في شبه قافلة بحرية تحميها الطرّادات والمُدمّرات من كلّ جانب، فالغواصات الألمانية كانت تذرع المُحيط الأطلسي ليل نهار، وخطرُها كان مُداهماً في كلّ ساعة. ولقد كان ممّا يتحتّم على كلّ جندي ارتدائه، قلادة على شكل قُرص من الألمنيوم، قُطره نحو أربعة سنتيمترات، يحمله الجندي في عُنقه وقد حُفر عليه رقمه، إذ لم يكن بدّ لكلّ جندي من رقمٍ يُعرف به في الجيش، حتى إذا مزّقته قُنبلة فضاعت ملامحه أو مات، ولم يكُن من سبيل إلى معرفة اسمه، قام قُرص الألمنيوم الذي في عُنقه مقام بطاقة الهويّة، فأحصاه الجيش في عداد القتلى، وأبرقت الحكومة إلى ذويه تُعلمهم بوفاته “في ساحة الشرف”. وعندما تُفكّر في جيوش من الملايين من الجنود، وفي جميع ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب ولباس وذخيرة ووسائل نقل ومواصلات، ومن ثَم تُفكّر في الذين يتبارون مع الحكومات على تأمين تلك الحاجات، ولا رائد لهم إلا الكسب؛ لأدركتَ أين يكمُن السبب الأول والأهمّ في إثارة الحروب، ومن هُم الذين يملكون المصلحة الأكبر في إثارتها، وأيّ الجريمة النكراء هي جريمتهم. فما شأن المُهاجر القادم من الولايات المُتّحدة وشأن فلّاح ألماني في “شتوتغارت”، أو نجّار نمساوي في “فيينا”، أو حدّاد مجري في “بودابست”، أو راعٍ تُركي في “أضَنه”؟ ألعلَّهُ وإياهم سِلَعٌ رخيصة في أيدي عُبّاد المال؟ ذلك هو الصحيح، فهؤلاء بأساليبهم الشيطانية يٌغدقون على تلك السِلع أشرف النعوت، فتبدو كأنها الجواهر النادرة: “جنود الحُريّة. أبطال العدالة الإنسانية. الغاسلون العار بدمائهم الزكية. الظافرون. الخالدون”..الخ. الحقيقة أن جريمة الحرب هي أبشع جريمة عرفها الناس على الإطلاق، وحسبُها بشاعةً أن تتبختر في أرجوان البطولة، وأن تلبس تاج الفضيلة، وتحمل صولجان الحقّ والعدل والحُريّة. نزل الجنود من الباخرة في بريّة بجوار “بوردو”، وكانت مُهمّة فرقته حراسة المُنشآت الأمريكية هناك، وهي تبعد مئات الأميال عن خطوط النار، وكان من ضمن هذه المٌنشآت مُستشفى عسكري يُنقل إليه الجرحى من جانبهم ومن جانب الأعداء. وفي ليلة تولّى فيها حراسة المستشفى، كانت أصوات الأنين والاستغاثة التي تصل إلى أسماعه تعلو في كلّ مكان، وكان أعلى الأصوات المُحطّمة للقلوب لفتىً ألماني مُصاب في نحو التاسعة عشرة من عُمره، وكان مُثخناً تماماً بالجراح الخطيرة.. ومنذ جيء به إلى المستشفى وهو يصيح “ماما .. ماما”، ولم يكن ينطق بسواها. حاول أن يتخيّل تلك “الماما”، فلم يستطع أن يتخيّل امرأةً بعينها، ولكن لاح له أنها أكثر من امرأة.. إنها الكون، إنها الحياة التي يستغيث بها ذلك المسكين، من العابثين بأقداسها، الجاحدين فضلها، المُشوّهين جمالها، طمعاً في منجمٍ من الذهب أو الفحم أو الحديد، أو في بئرٍ من النفط، أو في غابةٍ من المطّاط، أو في سوقٍ يبيعون فيه سِلَعهم التافهة. وبعد إقامة الكتيبة فترة من الزمن، غادروا تلك القرية ومشوا.. هُم القادمون من بعيد لإمداد الجبهة بدماء جديدة، إلى أن وصلوا إلى مُعسكرٍ آخر، فوقفوا في صفوف طويلة لتوزيع الجنود حسب المهام الموكلة إليهم، وكان نصيبه العمل في فرقة الاستكشاف، والسير خلف صفوف المقاتلين، وتزويد الأركان بالمعلومات عن سير المعارك ومواقع الأعداء وتحركّاتهم. ثم أنهم واصلوا السير في طريقهم إلى خطوط النار، وسرعان ما دوّى بغتة انفجار هائل اهتزّت له الأرض تحت أقدامهم، ثم استمرّوا في المشي في أراضٍ مكشوفة، والقنابل تتطاير من فوق رؤوسهم، فلا يسمعون إلا صفيرها يشقّ عنان السماء. اختلطت الصّوَر في مُخيّلته، والأصوات تطرق مسامعه بشدّة؛ بين أنين الجرحى وأزيز الرصاص وصفير القنابل وزئير المدافع! وتساءل: هل أنا ذلك الفتى الذي تزوّد بالعلم، واتّخذ القلم سلاحه الأوحد في الحرب على الجمود والجهل، وفي الدفاع عن حّريّة الإبداع، وعن جمال الحقّ والحباة !؟ إن ذلك الفتى لا يُمكن أن يكون شريكاً في البشاعة، التي تتمثّل هُنا تحت جُنح الظلام، إنه لبشاعة تخجل منها حتى الوحوش الضارية! واستمرّ الحال على هذا المنوال طوال فترة الحرب، إلى أن كان وفرقته يمشون يوماً في شارعٍ موحل من قرية مُتهدّمة، حين التقاهم ضابط فرنسي كان يسير وحده، فحيّاهم، وبصوت عالٍ، ووجهه يطفح بِشراً قال: “لقد انتهتْ الحرب”! في ذلك اليوم، احتفل الملايين من الناس في شتّى بقاع الأرض وغنّوا ورقصوا، إلا الذين تذوّقوا طعم الحرب؛ أولئك ظلّوا صامتين.