مراحل تكوين الإنسان لم توجد من عبث..

معنى أن تكون جنيناً ما حَييت.

آسرة هي رحلة بداية الخلق، مذهلة بتفاصيلها، مدهشة بدقة أحداثها. يمر الجنين في مراحل عدة من التخلق منذ بدايته كخلية واحدة حتى موعد ولادته كائناً حياً بأعضاء وظيفية و أجهزة تنظيمية تشاركه رحلة عمره بحيثية أقل ما يقال عنها أنها عظيمة. ورد في القرآن الكريم ما يسرد مراحل نشأة الجنين و يفصل في أطوار نموه، في إعجاز قرآني و حكمة ربانية لا مثيل لهما. لهذا الأمر أبعاد أخرى تتعدى تلك المرتبطة بالعلم ذاته، فمنها الحكمة الربانية في أن تكون نشأة الإنسان على مراحل، لا على عجل، و هو أمر ما إن تمعنا في المغزى منه لاتضحت لنا أمور كثيرة، و ما إن جعلناه نصب أعيننا لوجدنا الإجابات لتساؤلات أكثر تلازمنا بخصوص استقرارنا النفسي و إحساننا إلى أنفسنا. بداية و خير ما نبدأ به هو قول الله سبحانه و تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ(١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ(١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(١٤)}. هذه الآيات الحكيمة من سورة المؤمنون لخصت مراحل تكوين الجنين في القرار المكين في رحم أمه بإعجاز قرآني فريد. من نطفة و ماء قليل إلى علقة حمراء و من ثم إلى مضغة و قطعة لحم غير مخلقة، يتبعها تشكلها بعظام و أعصاب و عروق حتى غدت خلقاً آخر، ذا إدراك و سمع و بصر، فتبارك الله أحسن الخالقين. و في الآية الثانية من سورة الإنسان قال جل جلاله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}. النطفة مفردة بينما الأمشاج جمع، و هذا إثبات و دليل بأن النطفة الأمشاج ما هي إلا نتيجة اندماج الجينات و الأمشاج الذكرية مع تلك الأنثوية لتنتقل بها الصفات الوراثية إلي الجنين المتكون. كما قال الخالق البارئ في الآية السادسة من سورة الزمر: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}. أي طوراً بعد طور، بعيداً عن أنظار الجميع. كما فسر العلماء الظلمات الثلاث بظلمة الرحم و ظلمة المشيمة و ظلمة البطن. إعجاز قرآني آخر، فتبارك الواحد في ألوهيته الذي لا شريك له. هذه بعض من الآيات التي ذكرها الله سبحانه و تعالى في محكم آياته عن خلق الأجنة. لكن، هل بإمكاننا استنتاج معاني أخرى و دروس مستفادة من بين عظيم هذه السطور؟ بالتأكيد. الله جل جلاله لديه مطلق القدرة على أن يخلق ما يشاء كيفما شاء، بإمكانه أن يخلق الجنين في لحظة واحدة، لكن كان لخلق الإنسان و تكوينه هذا النصيب من حكمة الله و توقيته، من حيث مروره بمراحل مختلفة و احتياجه إلى عدد من الأسابيع و الأشهر يمضيها في رحم أمه إلى حين ولادته. حكمة رب العالمين قد لا تكون واضحة لنا في كثير من الأمور، لكن يمكننا التوصل إلى شيء منها في ما لا يتنافى مع فائق التسليم له و الإيمان بحسن و كمال تصرفه و تدبيره. من هذه الحكم أن خلق الإنسان على مراحل يلامس معاني الصبر التي نحن بأمس الحاجة إليها في مسيرة هذه الحياة، فنشأة الجنين رحلة تستغرق أشهراً عديدة، تتضمن صبراً و رفقاً من عدة أطراف، إلى أن يجازى هذا الصبر بميلاد لليسر. استذكار معاني الصبر و التأني و قيمة الوقت من هذا الموضع يمكن استحضاره في لحظات كثيرة من حياتنا اليومية، فنصبر في مسيرنا نحو نمونا الذاتي، و نصبر على محاولاتنا نحو تطورنا الشخصي، كما نصبر على إصرارنا نحو حياة كريمة يظللها السلام النفسي. فلا خير في العجلة في كثير من المواقف، و الصبر الجميل لا يتبعه سوى قدر أجمل. من الحكم الأخرى التي يمكن التوصل إليها من التفكر بخلق الأجنة هي أهمية البدء و لو بالقليل، الشروع في إتمام خير أمورنا و إن بدا الطريق طويلاً. الإنسان بدأ كخلية واحدة، انقسمت عدة مرات و مرت من خلال العديد من الأطوار حتى غدت تلك الخلية إنساناً متكاملاً يحتوي جسده على ترليونات الخلايا التي تشكل أعضاء مختلفة تقوم بوظائف متعددة. فإذا كانت النية طيبة وأصل الأمر خير، فإن السعي نحو تحقيقه أمر لا يجب أن تثبطه حجة عدم توفر كامل الإمكانيات أو طول المسير. الوقت سيمضي على أية حال، والوقت إذا استعمل في سبيل ما نهواه خير من ذلك الذي أهدر في قلق و إحباط لا تجنى منهما الثمار. و المقصود بالسعي هنا ليس المعنى المتعارف عليه نحو المراتب الدنيوية و الأمور المادية، بل السعي نحو السلامة، السلامة النفسية و العقلية و الجسدية و الروحية، أن أكون أنا كما أريد من دون أي تفسيرات لكائن من كان، فلا معنى لأي إنجاز في هذه الدنيا من دون طمأنينة البال. أخيراً و ليس آخراً، فطرة الإنسان السوي الإحسان إلى نفسه و إلى غيره من البشر و الكائنات الحية و إلى مجتمعه بصفة عامة، نحن اليوم تلك الأجنة التي نشأت في ظلمات ثلاث، تلك العظام التي كسيت لحماً، تلك العيون التي تشكلت، تلك الأرواح التي نفخت، و تلك الصرخات التي ملأت الكون فرحاً و ابتهاجاً معلنة قدومنا إلي هذا الجانب من رحلتنا في الدار الدنيا، ألسنا أحق بالإحسان إلى أنفسنا و بوقفة صدق مع خواطرنا؟ ألسنا أجدر بطمأنينة تلازمنا و فرح يرافقنا؟ النظر في عظيم صنع الله فينا يشرع أبواباً للخير و يفتح بوابات للسكينة و الثبات على أصعدة جمة ما إن استشعرنا هذه النعم و أعطيناها حق قدرها من التفكر و التدبر. الآن هو الوقت المناسب لتمكين أنفسنا من بلوغ أسمى حالاتها و انتزاعها من الانخراط في ما تريدنا بعض جوانب هذا العالم من تصديقه تحت مسمى الحياة المتكاملة. فكن جنيناً ما حييت. مواضع عدة في كتاب الله تمحورت حول تكوين الأجنة، و آيات مختلفة تطرقت إلى بداية خلق الإنسان،أوحاها الله إلى خير الخلق محمد صلى الله عليه و سلم في زمن لم يكن بمقدور الإنسان استنتاج مثل هذه الحقائق ناهيك عن إثباتها، فياله من خالق عليم و يالها من معجزة قرآنية عظيمة تلقننا دروساً مباشرة و أخرى مستنبطة. هذه الآيات الجليلة لخصت آلافاً من الصفحات التي سطرت في علم الأجنة على مر الأزمنة التي شهدت تطورات علمية جمة من بعد عناء و دراسات مطولة من قبل العلماء المختصين في هذا المجال. ختاماً، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ما زال هنالك الكثير لندركه، و الكثير لنتعلمه، و الكثير لندونه لمن هم بنا لاحقون، لينضموا إلى حلقة التزود بالعلم و يكرروا التاريخ لكن بإمكانيات أعلى من تلك التي توفرت لسابقيهم، لينتفع باستنتاجاتهم من يلحق بهم، فإن زكاة العلم نشره.