د.عبدالعزيز حسين في كتاب د.عباس يوسف الحداد..

عربي الهوى كويتي الجذور والانتماء.

في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانت وسائل الإعلام الكويتية تدخل معظم البيوت في الخليج، وكانت أكثر تطورا من غيرها، وكان يلفت نظري من أعضاء الحكومة الكويتية رجل يلبس الزي الأوروبي، وظل وحيدا على هذه العادة، وإن اشترك معه وزير الصحة عبدالرحمن العوضي بعد ذلك، ذلكم هو عبد العزيز حسين، وسيرته التي يتناولها هذا الكتاب مثال على نشوء الكوادر الخليجية و دورها في تنمية أوطانها. عبدالعزيز حسين يُذكر دائما كلما جاء الحديث عن التربية و التعليم في الكويت، وكذلك يُذكر إذا جاء الحديث عن المؤسسات الثقافية في الكويت، تلك التي كان لها إشعاع واسع في العالم العربي، مثلا “ المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب” و إصداراته مثل “ عالم المسرح”، “ عالم المعرفة”، “ مجلة الكويت”، وكذلك مجلة العربي. وقد أشرف على “ الخطة الشاملة للثقافة العربية” أيضا. يقول عن نفسه” أحلامي العربية نشأت منذ الصغر، وكثير ٌ منها كان حلما ولا يزال، من أحلامي أن أنتقل بدون جواز سفر إلى أي بلد عربي، أن أقرأ أي كتاب عربي في أي بلد عربي، ألا أجد أميا واحدا في قرية مصرية أو سورية أو مغربية، ويضيف “هذه أحلام كنا في صغرنا نظن أنه يمكن أن تتحقق بسهولة، وكثير منها تبخر، ولكنني بطبيعتي متفائل بالمستقبل، والمستقبل ليس له حدود، هناك حديث نبوي شريف يقول: “ إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها” يجب أن نأخذ هذا مثلا، ليس هناك حدود أمامنا و لا يجب أن تكون”. يا الله ! رحل صاحبنا عن دنيانا قبل ثلاثة عقود، ماذا تحقق من أحلامه وماذا تبخر؟ ضم الكتاب سيرة للرجل ومجموعة من محاضراته وعددا كبيرا من مقالاته الصحفية. ونظرا لأهمية دور الرجل فقد سبقت الكتابة عنه في كتاب” أدباء الكويت في قرنين”، كما نشرت دار سعاد الصباح كتابا تذكاريا عنه قبل عام من رحيله بعنوان” عبدالعزيز حسين و حلم التنوير العربي”. ولد الرجل عام ١٩٢٠ من عائلة شغوفة بالعلم ، برز فيها أكثر من ملا ( مدرس و عالم شريعة) وكانت تعمل بتجارة الأخشاب، و لها سفينة اسمها “عنقاش” ،ويعنى التاجر المتجول ،تطوف بموانئ الخليج والهند وأفريقيا، درس بمدرستي المباركية و الأحمدية، ثم كان أحد أول أربعة مبتعثين للدراسة في مصر، وقد تكفل الأزهر بنفقات معيشتهم، طموحه دفعه الحصول على دبلوم من مدرسة المعلمين العليا إضافة إلى دبلوم تدريس اللغة العربية من الأزهر، عاد إلى الكويت، ثم ابتعث ليكون مديرا لبيت الكويت الذي كان يرعى المبتعثين إلى القاهرة، وكانت الدفعة الأولى تضم ستين طالبا. قدم بيت الكويت نشاطا ثقافيا واجتماعيا وترفيهيا، استضاف مفكرين مصريين، وأدار حوارات تحت عنوان ندوة البعثة و أصدر مجلة البعثة التي كتب فيها طلاب وكُتاب من الكويت و الوطن العربي، و كانت توطئة لصدور مجلة العربي، عام ١٩٥٠ ،تم ابتعاثه لدراسة التربية في لندن و حصل على دبلومين، و زار السويد ليتعرف على أنظمة التعليم فيها. كان مجلس المعارف هو من يشرف على التعليم في الكويت، ويبدو أنه كان تقليديا، فقد كان يلغي بعض المواد حين لا يتوافر مدرسون لها، و رأى بعض المعلمين ان يطلبوا إعادة تنظيم المجلس و تولية عبدالعزيز حسين إدارته، استجاب المجلس في نفس اليوم فاستدعى عبد العزيز ليصبح مديرا. أول مجموعة مدرسين قدموا إلى الكويت كانوا أربعة طلبهم أمير الكويت من مفتى فلسطين، و لكن أصبحت الكويت بحاجة إلى كثيرين، وأتاحت موارد النفط فرصة للتوسع، فقام عبدالعزيز بالتعاقد مع ٢٧٠ معلما من أقطار عربية شتى. بعدها تم الإعلان عن مجانية التعليم، وقد وصلت ميزانية التعليم إلى حوالى ١٠℅ من دخل الكويت، و لإزالةً للفوارق الطبقية تم توزيع زىٍ موحدٍ على جميع الطلاب، و أصبحت هناك تغذية مدرسية. وحرصا على القدوة فقد التزم إداريو دائرة المعارف بلبس القميص والبنطال، والتزم به عبدالعزيز حسين دائما. توسع في الابتعاث للخارج فأصبح هناك بعثات لأمريكا وبريطانيا إضافة إلى مصر. ولتأهيل معلمين كويتيين افتتح معهد المعلمين الذي كان يعطى مكافأة للطلاب، ونظرا لأن نهضة البلد أوجدت فرصا ذات مردود أفضل، فقد زهد كثيرون في التأهل للتعليم، مما اضطر الحكومة لإغلاق المعهد مؤقتا في بعض السنوات. استفاد الرجل مما اطلع عليه من تجربة التعليم في الدول الاسكندنافية فأنشأ رياض الأطفال التي يقبل بها الطفل لسنتين من عمر أربع سنوات، ثم ينتقل إلى المدرسة الإبتدائية، وقد كانت الكويت رائدة في هذا المجال. عام ١٩٥٥ تم إجراء أول تقييم علمي لواقع التعليم و استُقدم للمساعدة في التقييم عميد المعهد العالي للتعليم بمصر، و رئيس جامعة بغداد و رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، و الأديب محمد فريد أبو حديد . و يبدو أن هذا الاهتمام كان له أصداء، فعندما زارت أم كلثوم الكويت عام ١٩٥٣, قالت إن أعظم ما رأت في الكويت المدارس و المستشفيات. وهي ليست شهادة من خبيرة ولكنها تعكس حرص الحكومة على اطلاع زائريها على إنجازاتها. يقول عبدالعزيز “ كان اهتمامي الأول هو نشر الثقافة إلى جانب التعليم”، و لذا أصبح هناك موسم ثقافي سنوي حاضر فيه مجموعة من عدة أقطار عربية. استمر الموسم ست سنوات، وكانت محاضراته تُطبع في دار المعارف بمصر وتوزع على المهتمين. يعلق كاتب السيرة أن من المدعوين من عمل في المشروعات الثقافية في الكويت، مثل الدكتور أحمد زكى الذي رأس تحرير مجلة العربي، وزكى طليمات الذي أسس الحركة المسرحية في الكويت. لم يقتصر عمله على التربية فقد انتدبه الأمير ليرأس وفد الكويت إلى الأمم المتحدة، لتفنيد ادعاء عبد الكريم قاسم ضد استقلال الكويت، حاول الرجل الاجتماع بوزير الخارجية العراقي على أمل المحافظة على الوجه العربي من التشويه و التشهير، لكن الوزير رفض. ألقى صاحبنا خطابا وصف بأنه تاريخي، ثم انتقل إلى القاهرة ليتقدم بطلب انضمام الكويت للجامعة العربية. ومما يذكر أنه التقى الرئيس عبد الناصر وأكد له أنه إذا قام العرب بإرسال قوات إلى الكويت فستنسحب القوات الانجليزية التي قدمت بناء على معاهدة الحماية بين البلدين، و هكذا انضمت الكويت لجامعة الدول العربية، وأرسلت السعودية و مصر و دول عربية أخرى قوات إلى الكويت حلت محل القوات الانجليزية، و مثل هذا نجاحا لعبد العزيز حسين، و عليه فقد عُين ممثلا للكويت لدى الجامعة العربية وسفيرا في مصر. في عام ١٩٦٣ عين وزيرا للدولة، استمر عامين، ثم عمل فترة في التجارة، ولكنه عاد وزيرا للدولة عام ١٩٧١ واستمر اربعة عشر عاما، كان يُعرف خلالها بمهندس الوزارة، وعقل الدولة ومفكرها. في عام ١٩٧٩ قررت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تشكيل لجنة لوضع خطة شاملة لتنمية الثقافة العربية، برئاسة عبدالعزيز حسين، و عضوية مجموعة من كبار المختصين العرب منهم محمد الأحمد الرشيد ومنصور الحازمي من السعودية. أنجزت الخطة بعد ست سنوات في ستة مجلدات؛ المجلدات الاثنان الأول للخطة، والمجلدات الثلاثة التالية للأبحاث والدراسات، والمجلد الأخير للإحصاءات والاستبيانات عن واقع الثقافة في كل قطر، وقد ترجمت الخطة الى الانجليزية و الفرنسية و أودعت اليونسكو على أنها مساهمة عربية في عقد الثقافة العالمي، أقرت الخطة من مجلس الوزراء العرب المختص، و لكن في مقال كتبه الرئيس لم يعلم بأن أي جهاز عربي قد تحرك ليستفيد من هذا العمل. وكان المفروض ان يتم الحوار بين المثقفين العرب في كل قطرعنه، وقيام لجان للتنسيق بين مختلف الأقطار لتحقيق الاستفادة. كما رأس عبدالعزيز حسين اللجنة التي وضعت الخطوط العريضة لإقامة “ المجلس الوطني للآداب و الفنون و الثقافة” و “ معهد الكويت للأبحاث العلمية” . في محاضرة له عن الخليج العربي يذكر أن الخليج كان يُسمي خليج البصرة، أو الخليج الفارسي، رغم انه لم يكن له علاقة بفارس إلا بالاسم، فقد خضعت البحرين لحكم المناذرة في الحيرة الذين كان ولاؤهم للفرس، وكان السكان على جانبي الخليج من العرب، و لذا فإن منطقة شرق الخليج تسمى عربستان عند الإيرانيين، و كان الكويتيون هم أول من أطلق مسمى الخليج العربي . علما بأن الصحابي أبا العلاء بن الحضرمي كان أول عربي يغزو فارس و قد انطلق من البحرين.الدراسات الأثرية في جزيرة فيلكا تظهر وجود حضارة منذ أربعة آلاف عام ، و كذلك تظهر الآثار أن هذه المنطقة هي التي كان يسكنها الفينيقيون الذين هاجروا إلى ساحل المتوسط آخذين معهم أسماء مدنهم “صور” و “جبيل”. الدول التي تحكم الخليج هي التي كان لها قوة بحرية تحمى تجارتها، و لذا فإن أهل الخليج كانت لهم سفنهم التي هيأت لهم حكم سواحل شرق أفريقيا ، و كانوا ينقلون إنتاج الهند وما حولها إلى مصر وسواحل افريقيا، و من مصر كان ينتقل إلى أوروبا، هذا الازدهار الاقتصادي انتهى حين سيطر البرتغاليون على رأس الرجاء الصالح ، و كان الملاح العربي أحمد بن ماجد هو من دلهم على الطريق دون معرفة منه بنواياهم ، احتكر البرتغاليون طريق الهند و تجارتها ، واحتلوا مواقع على الخليج العربي لفترة، و لكن العمانيون استطاعوا بعد حروب دامية طردهم من الخليج بل و لحقوهم إلى سواحل الهند، و هنا ظهرت قوى استعمارية منافسة ، إذ تصارع الهولنديون والفرنسيون والإنجليز للسيطرة على الطرق البحرية بين أوروبا و الهند ، و اخيرا استطاع الإنجليز أن يسيطروا على هذه الطرق و يعقدوا مع مشيخات الخليج معاهدات حماية. عرض الكتاب تسع محاضرات للرجل، جُمعت تحت عنوان المجتمع العربي في الكويت، وهي في رأيي من أهم ما كتب عن التاريخ الاجتماعي للكويت، كتبت بوعي عميق للتحولات التي حدثت المجتمع الكويتي بتأثير التحديث ودخل النفط وتطور الادارة، ويمكن لغير المتخصص الاكتفاء بها عن غيرها. و ختاما يقول كاتب السيرة: إن عبدالعزيز حسين كان إنسانا لكل العصور عابرا للزمان والمكان، عربي الهوى، كويتي الجذور والانتماء، سليم العقيدة، منكرا لذاته، عصامي التكوين. رحمه الله.