وقفات وخواطر مع مذكرات جميل الحجيلان (5 - 5) ..
سفيراً للمملكة لدى فرنسا (1976-1995 م).
![](http://alyamamahonline.com/uploads/1738739819.jpg)
أمضى جميل الحجيلان عشرون عاماً سفيراً للمملكة لدى فرنسا؛ من تاريخ تقديم أوراق اعتماده في 29 يوليو 1976 إلى شهر نوفمبر عام 1995 م. ولعمري أنها فترة زمنية فاقت في كثافة نشاطاتها ووتيرة التفاعل بين البلدين خلالها وبمراحل الفترة الممتدة من أغسطس 1932 م، حين وقعت معاهدة الصداقة بين مملكة نجد والحجاز وملحقاتها، إلى عام 1975 م. وإلى جانب القفزات الكبيرة في التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والعسكري... ابتداءً من عام 1975 م، شهدت الأعوام اللاحقة أحداثاً جساماً عديدة ومتتابعة في المنطقة العربية، كان لفرنسا والمملكة علاقة بها بشكل أو بآخر، ومصلحة في التشاور المستمر بشأنها، وتبعاً لذلك كثافة في الزيارات المتبادلة للمسؤولين في البلدين للتباحث حولها وعلى أعلى المستويات، ومن بين أبرز تلك الأحداث- وأسميها بأحداث تجاوزاً- الآتي: •الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و1990 م. فرنسا تعتبر نفسها وصيةً على لبنان ومرجعاً معنوياً لفئات من شعبه وحاضناً لجالية لبنانية كبيرة تضم نخباً اقتصادية وثقافية... مهمة، والمملكة ترى في لبنان بلداً شقيقاً يستحق أن يبذل كل جهد لانتشاله من محنته، و»اتفاق الطائف» واحد من بين أبرز الشواهد على جهود المملكة لنجدته. •الحرب العراقية الإيرانية بين عامي 1981 و1988 م. (ج. 2، ص. 39-41، وص. 255-260)، وتتخلل الجزء الثاني من المذكرات إشارات إلى تلك الحرب. •غزو العراق للكويت ومعركة تحرير الكويت خلال عامي 1990 و1991 م. (ج. 2، ص. 307-340) •الصراع الليبي الفرنسي في شمال تشاد وتبعات الحصار الأمريكي الغربي على ليبيا، بعد تفجير النظام الليبي لطائرة شركة البان آم فوق مدينة لوكربي البريطانية وطائرة مدنية فرنسية تابعة لشركة UTA الفرنسية في سماء دولة النيجر في 19 سبتمبر 1989 م. (ج. 2، ص. 115-120) •ما سمي بحرب البوسنة والهرسك، وهي حرب بين الصرب والكروات، وحرب متداخلة معها شنها الصرب والكروات على شعب البوسنة والهرسك ذي الغالبية المسلمة، والتي تواطأت خلالها فرنسا مع الصرب، بشكل واضح إعلامياً وسياسياً، وإن كان مغلفاً بالدبلوماسية و»النعومة»، قبل أن ينقلب الموقف الفرنسي بانتخاب السيد جاك شيراك رئيساً للجمهورية عام 1996 م، الذي دعم التدخل العسكري الأمريكي لوضع حد للعدوان الصربي... (ج. 2، ص. 164-168). •القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي الذي كانت فرنسا طرفاً فاعلاً فيه منذ بدايته، إلى أن تعدل موقفها الداعم لإسرائيل نسبياً بعد حرب 1967 م؛ وما العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه فرنسا مع بريطانيا وإسرائيل في أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 1956 م عنا ببعيد- انظر مذكرات الحجيلان (ج. 2، ص. 22، وص. 515-527). •ما حدث بعد بدء الانفتاح الديموقراطي في الجزائر عام 1992 والذي تحول إلى مرحلة عنف واقتتال دامت قرابة عقد من الزمن، وهي مرحلة وصفت بالعشرية السوداء. •وكل تلك الأحداث المتواصلة- بمآسيها التي لا حصر لها- كانت معيناً لا ينضب، يمد وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة بمادة غزيرة لنشرات أخبارها وتحقيقاتها المكتوبة والمتلفزة وبرامج وأعمدة الرأي والتحليل. •وأزيد على ذلك التعاون الأمني بين البلدين في مواجهة العنف والإرهاب منذ عام 1980 م. (حركة جهيمان واحتلال الحرم المكي الشريف، ج. 2، ص. 82-93)، و(محاولة اغتيال رئيس وزراء إيران شهبور بختيار والتهديد باغتيال السفير، ج. 2، ص. 141-149)، والأحداث الإرهابية- اغتيالات وتفجيرات هزت فرنسا، وباريس على وجه الخصوص- ومن أبرزها التفجيرات الإرهابية الدامية خلال عام 1986 م، التي سيتم التطرق إليها لاحقاً. كل ما تقدم كان يمثل خبزاً شبه يومي لسفير المملكة في بلد مثل فرنسا. وإذا ما أضيف إلى ذلك التعامل مع جبهة الإعلام، وهي الخاصرة الرخوة في عمل سفير يعمل في بلد مثل فرنسا، بماضيها الإمبراطوري والاستعماري ووضعها كإحدى مركزيات الثقافة واللغة في أوروبا وفي أفريقيا وفي جزء من كندا، ونفوذها السياسي- عضو دائم بمجلس الأمن- والعسكري- دولة نووية ومصنعة للسلاح وعضو في الناتو ومتواجدة بمقاطعاتها المسلوبة من دول وشعوب أخرى في الكاريبي والمحيطين الهندي والهادي؛ إذا ما أخذ كل ذلك في الاعتبار، يتضح أن عدم القدرة على التعامل مع الإعلام والتفاعل معه والاستعداد للتجاوب مع دعوات وسائله الشرهة- التي لا ترحم- سيشكل إعاقة لن تتغلب عليها كثافة النشاط الدبلوماسي ذي الطابع الاجتماعي مثل التواجد في المناسبات وحضور الحفلات، وهي مثل المطر المنهمر باستمرار في مدينة مثل باريس. والتعامل مع الإعلام في فرنسا مهمة شاقة- وإن كان يصاحبها بعض البريق-، إذا ما عرفنا أن باريس ساحة نفوذ إعلامي دولي، وكذلك عربي- مثل لندن-، خصوصاً بعد إنشاء محطة «راديو مونتي كارلو» الحكومية الفرنسية باللغة العربية عام 1973 م والتي أصبح لها تواجد قوي في العالم العربي، وتكاثر المجلات العربية فيها ابتداءً من أواخر سبعينيات القرن الماضي، فضلاً عن صحف الارتزاق الصفراء. ثم- بعد تحرير قطاع الإعلام المسموع والمرئي الذي أقرته حكومة «التعايش» برئاسة جاك شيراك عام 1987 م- تكاثر القنوات التلفزيونية الفرنسية غير الحكومية والانفجار في عدد المحطات الإذاعية، بما فيها الإذاعات المتخصصة وإذاعات الجاليات. وأذكر خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات أنه لم يكن متواجداً في الساحة الإعلامية من العرب ممن تميزوا بالإجادة في الطرح والقوة في الحجة، وخصوصاً في الإذاعة والتلفزيون، إلا عدد أقل من أصابع اليد الواحدة، جميل الحجيلان فيما يخص القضايا المتعلقة بالمملكة مع ما يفرضه موقعه الرسمي كسفير من قيود على كثافة المشاركة، والدكتور غسان سلامة، الأستاذ في جامعة العلوم السياسية (Science Po)، وسفيرة فلسطين لدى بلجيكا السيدة ليلى شهيد، والسفير حمادي الصيد، رحمه الله- تونسي الجنسية- مدير مكتب الجامعة العربية في فرنسا، والذي صدرت منه مواقف أغضبت المملكة ودول الخليج خلال أزمة احتلال الكويت. ويضاف إلى هؤلاء عدد أقل شهرة وتأثيراً، ومنهم السيدة بسمة قضماني درويش و»الخبير» الفرنسي من أصل جزائري سليمان زغيدور، الذي كان يبيع الجمهور الفرنسي ما يحب سماعه. أما الطفيليون والمتطفلون من الفرنسيين والعرب من ذوي التأثير المتواضع الذين يظهرون في وسائل الإعلام المختلفة بين آونة وأخرى فعددهم لم يكن بالقليل. ورغم ثقل ما سأذكره في السطور التالية على نفسي، أقول إنني استخلصت من إقامة دامت ما يربو على خمسة عشر عاماً في باريس وفي فرنسا عموماً في فترات متفرقة- طالباً وصحفياً ثم دبلوماسياً- أن بلداً مثل فرنسا وعاصمة مثل باريس تتطلب من بلد كبير مثل المملكة أن يمثلها لا سفير واحد، بل سفيرين أو ثلاثة: سفير رئيس (ٍSuper Ambassador) يمثلها لدى رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والبرلمان ومجلس الشيوخ والجهات العليا والأحزاب السياسية والبرلمان الأوروبي في ستراسبورغ... ويتفرغ للمجال الذي يبدع فيه- مثل المجال الإعلامي الذي أولاه الحجيلان الأهمية التي رأى أنه يستحقها- وسفير أو سفيرين تحت قيادته: سفير للشئون التعليمية والثقافية والاجتماعية والتعاون العلمي- بما فيه الجانب البحثي ومراكز الدراسات والبحوث ومعهد العالم العربي ومنظمة الفرانكوفونية...- والعلاقات مع العرب والمسلمين الفرنسيين والجالية العربية والمسلمة، وسفير ثالث للتعاون الاقتصادي والتجاري والفني (التقني) الضخم بين المملكة وفرنسا، مع وجود ملحقين مختصين بالطبع. ضحايا الإعلام: رئيس الوزراء وصديق الرئيس من بين أوائل من تطرق إليهم الحجيلان في الجزء الثاني من مذكراته السيد بيير بيريغفوا (1925-1993 م)، أمين عام رئاسة الجمهورية في السنوات الثلاث الأولى من عهد الرئيس فرانسوا متران (ص. 33 وص. 95..). هذا السياسي من أصل أوكراني لم يتجاوز تعليمه المرحلة الثانوية وتدرج في مصانع الحديد والصلب من عامل حتى وصل إلى وظيفة مدير ورشة، أصبح شخصية نقابية مهمة في نقابات العمال خلال الخمسينيات. وبعد سنوات من النشاط السياسي مع عدد من الشخصيات القيادية السياسية مثل رئيس الوزراء الأسبق بيير مندس فرانس التحق بالحزب الاشتراكي بزعامة فرانسوا متران عام 1969 م، وأصبح عضواً في المجموعة التنفيذية في الحزب. كافأه الرئيس متران عند انتخابه عام 1981 بمنصب أمين عام رئاسة الجمهورية، ثم بعد ثلاثة أعوام أصبح وزيراً للشئون الاجتماعية، وعين بعد ذلك وزيراً للاقتصاد والمالية، وهي حقيبة شغلها مرتين لمدة ست سنوات. وتوجت حياته السياسية بتعيينه رئيساً للوزراء. كان شخصية محبوبة حظيت باحترام وشعبية مصدرها كفاحه وتدرجه من عامل مهني بسيط إلى منصب رئيس وزراء. لم يهنأ بيريغفوا بهذا المنصب في الشهور الثلاثة الأخيرة من عمله فيه، إذ تعرض لانتقادات قاسية من وسائل الإعلام، التي أخذت عليه ما زعم بأنه استغلال لنفوذه للحصول على قرض بمليون فرنك- قرابة 700 ألف ريال- بشروط ميسرة لشراء شقة في باريس. لم يتحمل بيريغفوا هجوم وسائل الإعلام عليه- ومعظمها مناصرة للحزب الديجولي والأحزاب المتحالفة معه- فأطلق رصاصة على رأسه في 1 مايو 1993 م، ولما يمض على توليه الرئاسة عام واحد. وسبق انتحاره تورط مدير مكتبه ألان بوبليل في فضيحة التربح من شراء أسهم شركة حكومية من خلال الحصول على معلومات سرية عن قرب إتمام صفقة بيع جزء من أسهمها لشركة أمريكية؛ وأدى حصار وسائل الإعلام لصديق حميم من أصدقاء الرئيس متران ورفيق دربه منذ سنوات مقاومة الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية واسمه روجيه باتريس بيلا إلى الموت بالاكتئاب، بعد الكشف عن فضيحة تربحه أيضاً مع رجلي أعمال لبنانيين- شربل غانم سمير طرابلسي- من شراء أسهم الشركة نفسها، وهي شركة التعدين والتعليب الفرنسية بشيني، قبل الإعلان عن الصفقة رسمياً، ثم بيع الأسهم بعد إتمام الصفقة وتحقيق أرباح بملايين الفرنكات. الغزو العراقي للكويت، و»لا بد أن نسمي القِط قِطاً» كان غزو العراق لدولة الكويت فجر الثاني من أغسطس 1990 م حدثاً كارثيا ترتب عليه تبعات دولية كبيرة، وانقسام غير مسبوق في العالم العربي...، وقد تحدث الحجيلان في مذكراته بتفصيل وافٍ عن ذلك الحدث من موقعه كسفير لأول بلد معني بهذا الغزو بعد الكويت، وكسياسي متابع لتطوراته وتفاعلاته، التي تستوجب القيام بدور إعلامي فاعل. وذكر أنه منذ بداية الغزو كان مقتنعاً بأن «باريس ستكون واحدة من مراكز الحسم في التعامل مع هذا الحدث الكارثة.، وأن فرنسا ستكون واحدة من ساحات السياسة والإعلام، متابعة لهذا الحدث الكبير، وأني سأكون مدعواً... لأن استجيب لمتطلبات الإعلام الفرنسي عن موقف بلادي في هذه الساعة الحرجة من تاريخ وطني». تعددت مشاركاته في نشرات الأخبار وبرامج الحوارات والندوات السياسية التلفزيونية والإذاعية، وكم كانت وسائل الإعلام نهمة للحصول على ضيوف للتعليق على كل ما له صلة بذلك الحدث المزلزل من أخبار ومعلومات وتصريحات وإشاعات، واستضافة كل من يمت لها بصلة من قريب أو بعيد. شراهة لا حدود لها. ومن ضمن من تطرق إليهم الحجيلان في سياق حديثه عن تلك الفترة سفير العراق لدى فرنسا آنذاك الدكتور عبدالرزاق الهاشمي الذي قال عنه: «كان الدكتور عبدالرزاق الهاشمي سفير العراق لدى فرنسا بعثياً عنيداً في انتمائه العقائدي، وعنيداً في الدفاع عن مواقف الرئيس... وجاء غزو العراق للكويت ليكشف عن مدى انتمائه العقائدي وتفانيه في الامتثال لأوامر الرئيس». ويقول الحجيلان إن وسائل الإعلام الفرنسية لم تلاحق سفير الكويت أو السعودية كما لاحقت سفير العراق في الأيام العشرة الأولى التي أعقبت الغزو، وأنه بحكم عدم معرفته باللغة الفرنسية كان يستجيب لطلبات وسائل الإعلام، مستعيناً بمترجم. ما لم يتطرق إليه الحجيلان هو تلك الحادثة الطريفة التي كان مسرحها قاعة المجلس التنفيذي في منظمة اليونسكو- في بداية شهر أكتوبر-، والتي كان «بطلاها» الحجيلان والهاشمي. عُقدت في تلك القاعة جلسة خاصة لمناقشة العدوان العراقي على الكويت والآثار المترتبة عليه (في مجالات التربية والتعليم وحرية التعبير ...). وألقى الحجيلان كلمة المملكة في الاجتماع، وورد فيها مطالبة هذه المنظمة الدولية أن تسمي العدوان عدواناً وتدينه، واستخدم عبارة «لا بد أن نسمي القِط قطاً Il faut appeler un chat un chat”»، وهو تعبير مألوف في اللغة الفرنسية، يقابله في اللغة العربية عبارة «يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها». وفور سماع سفير العراق لهذه العبارة انتفض غاضباً وصرخ في القاعة: «لا أسمح لك أن تسمي رئيس بلادي قطاً، هذا غير مقبول.. هذا لا يليق..»؛ وأمام هذا المشهد تفاوتت ردود فعل الحضور بين الدهشة من انفعال سفير العراق، وضحك من كانوا يعرفون دلالة تلك العبارة من انفعال السفير ومقاطعته للحجيلان. وتذكر تلك العبارة بعبارة «حيوان سياسي Animal politique» التي وردت في كتاب صدر عام 1956 م للصحفي في جريدة لوموند جان لاكوتور بعنوان «حراك مصر»؛ استخدمها ليصف تعلق الرئيس جمال عبدالناصر بالسلطة وسعيه لاحتكارها بكل السبل. ولم تحل علاقة لاكوتور الوثيقة بعبدالناصر- وهو كاتب سياسي شهير تخصص في كتابة السير الذاتية لعدد من كبار ساسة العالم- دون هجوم الصحافة المصرية عليه آنذاك. معرض المملكة بين الأمس واليوم من الأحداث الثقافية المهمة في باريس خلال عقد الثمانينيات إقامة «معرض المملكة العربية السعودية بين الأمس واليوم»، والذي دام عشرة أيام في منتصف شهر ديسمبر عام 1986 م (ج. 2، ص. 210-228). أقيم المعرض في «القصر الكبير»، وهو واحد من بين أجمل المنشآت المعمارية الكبرى في باريس؛ أُتِمَ بناؤه في السنوات الأخير من القرن التاسع عشر ليستضيف المعرض العالمي في باريس الذي أقيم عام 1900 م. كان التفكير في الحصول على هذا الموقع توفيقاً من رب العالمين، ولا أشك في أن إصرار الحجيلان على اختياره، مدعماً بثقل المملكة السياسي والاقتصادي الكبير بالنسبة لبلد مثل فرنسا وبتأييد من رئيس الوزراء جاك شيراك قد أسهم في الظفر بذلك الموقع. التحضيرات لإقامة المعرض الذي وجه بتنظيمه سمو أمير الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز- خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان- بدأت في منتصف عام 1986 م، وإضافة إلى المسؤولين الذين أتو من المملكة للإشراف على الاستعدادات والتحضيرات والذين أورد الحجيلان أسمائهم (ج. 2، ص. 221)، لا أنسى الفنانين التشكيليين السعوديين المتميزين عثمان الخزيِّم وعلي الرزيزاء الذين كانا يعملان في الموقع وعلى مدى ثلاثة أشهر تقريباً بشكل شبه يومي، إضافة إلى مختصين سعوديين آخرين بالطبع. ولا أذكر مناسبة ثقافية سعودية سابقة في باريس لذلك المعرض الكبير والشامل إلا مشاركة ثقافية محدودة لوزارة التجارة بجناح في معرض باريس الدولي عام 1971 م، زاره رئيس فرنسا آنذاك السيد جورج بومبيدو. الإرهاب يضرب باريس تحدث الحجيلان عن محاولة اغتيال رئيس وزراء إيران شهبور بختيار في شهر يوليو 1980م من قبل عناصر تابعة لإيران- اغتيل بعد ذلك في 7 أغسطس 1991م—وهو الشهر نفسه الذي اغتال فيه نظام حافظ الأسد أحد مؤسسي حزب البعث ورئيس وزراء سوريا الأسبق صلاح البيطار-، وذكر أن جهاز الأمن الفرنسي أبلغه بأن الإرهابيين الثلاثة الذين تم القبض عليهم اعترفوا بأن إرهابيين اثنين آخرين هربا وتوجها إلى منزل السفير السعودي في باريس، وبقية تلك التفاصيل المثيرة مذكورة في الجزء الثاني من المذكرات. وتُذَكِّر تلك الأحداث التي كانت إيران- وعناصر موالية لها أصبحت فيما بعد من رموز «حزب الله» اللبناني- بحادثة اقتحام عناصر تابعة للإرهابي الشهير أبو نضال للسفارة السعودية في باريس في أواخر عام 1973 م، واحتجاز عدد من الدبلوماسيين السعوديين وعاملين عرب وأجانب في السفارة رهائن لفترة قاربت ثلاثة أسابيع- خلال شهر شعبان 1393 هـ، أواخر أغسطس وبدايات سبتمبر 1973 م-، قبيل انعقاد قمة دول عدم الانحياز في الجزائر ببضعة أيام، والتي كان الملك فيصل من أبرز المشاركين فيها. ومنظمة أبي نضال الإرهابية هذه- المعروفة باسم «حركة فتح- المجلس الثوري»- هي التي اغتالت في باريس سفير دولة الإمارات العربية المتحدة لدى فرنسا خليفة أحمد المبارك- رحمه الله- في 8 فبراير 1984 م، وما أكثر محاولات الاغتيال خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات في باريس من قبل النظام الإيراني وأنظمة القذافي وصدام حسين وأنظمة أوروبا الشرقية...، سواءً من خلال أجهزة مخابراتها نفسها أو من خلال جهات تابعة لها مثل منظمة أبي نضال و»حزب الله» أو إرهابيين دوليين مثل الفنزويلي كارلوس... غير أن ما حدث خلال عام 1986 م بتدبير من أجهزة إيران وسفارتها في باريس كان موجة إرهاب غير مسبوقة، لا يشابهها في الدموية إلا موجة التفجيرات والاغتيالات التي ارتكبتها منظمة العمل السري الفرنسية عامي 1961 و1962 م في باريس، بأوامر من عدد من كبار جنرالات الجيش الفرنسي في الجزائر، المعارضين لإذعان الجنرال ديجول لمطالب قادة الثورة الجزائرية؛ رغم أنه- أي ديجول- لم يقصر في قمع الشعب الجزائري قمعاً وحشياً منذ عودته إلى الحكم عام 1958 م، إلى أن تبين له في أواخر عام 1961 م ألا سبيل للحيلولة دون استقلال الجزائر. ما بين 7 ديسمبر 1985 وحتى 17 سبتمبر عام 1986 م دبرت الأجهزة الاستخباراتية الإيرانية ما لا يقل عن ست عمليات تفجير إرهابية في أماكن عامة في باريس: أسواق ضخمة مثل غاليري لافاييت والأسواق الواقعة تحت فندق كلاريدج بالشانزليزيه... وبرج ايفل ومحطات قطارات ومترو مركزية مثل محطة قطارات ليون وبلدية باريس...، وتم توقيت التفجيرات- التي أحبط معظمها- في أوقات الذروة، في أماكن تسوق مزدحمة وفي محطات قطارات. ومن بين أخطر العمليات الإرهابية التي وقعت بالفعل تفجير متجر «تاتي» المعروف بأسعاره المتهاودة في شارع رِن Rennes الواقع بين نهر السين وبرج مونبارناس- أعلى البنايات وسط باريس-، وهو متجر يرتاده ذوي الدخول البسيطة من الفرنسيين والمهاجرين. قرابة الساعة الخامسة من يوم الأربعاء 17 سبتمبر 1986 م، في وقت كان فيه المحل التجاري والمحلات المجاورة مزدحمة بالمتسوقين، توقفت سيارة صغيرة أمام المحل، ونزل منها إرهابيون وضعوا بضع عبوات ناسفة في برميل نفايات أمام واجهة المحل ثم ولت الأدبار، ليقع بعد بضع دقائق انفجار ضخم دمر المحل التجاري ونجم عنه قتل سبعة أشخاص وجرح 55 آخرين، ومن ضمنهم أفراد عائلة لبنانية كانت قد قدمت حديثاً إلى باريس هرباً من الحرب الأهلية اللبنانية. كان مكان الانفجار مثل ميدان معركة. شُلَّت حركة المرور وسط باريس، وطوقت منطقة مونبارناس بأطواق أمنية، وهبطت وسط ميدان مونبارناس بعد قرابة الساعة طائرة هليكوبتر تقل الرئيس متران، وتبعتها طائرة أخرى تقل عمدة المدينة جاك شيراك والذي كان قد تولى رئاسة الوزراء مرة ثانية في 20 مارس من العام نفسه، ومعه وزير الداخلية... تلك العمليات الإرهابية- ما نجح منها وما فشل – ارتكبتها عناصر مرتبطة بإيران، بهدف إجبار فرنسا على وقف بيع الأسلحة للعراق من جانب، ولإطلاق سراح إرهابيين إيرانيين ولبنانيين ومن عدد من الجنسيات العربية الذين جندتهم إيران والقي القبض عليهم في فرنسا في سنوات مختلفة منذ عام 1980 م، واكتشف أن المنسق لتلك الجرائم الإرهابية دبلوماسي بارز في السفارة الإيرانية يدعى وحيد خورجي، وفور اكتشاف صلته بتلك الجرائم، تلقى خورجي هذا اتصالا من موظف فرنسي رفيع في وزارة الخارجية يخبره بأن عناصر من أجهزة الأمن قادمة للقبض عليه في مكان إقامته؛ فلجأ الرجل إلى سفارة إيران في باريس، وعندما رفضت السفارة تسليمه فُرض على محيطها طوق أمني مشدد استمر سبعة أشهر. فرضت في باريس في النصف الثاني من ذلك العام إجراءات أمن صارمة على حرية السفر للمقيمين الأجانب؛ وأصبح مألوفاً رؤية فرق الشرطة وقوات مكافحة الإرهاب تجوب الشوارع والأماكن العامة، وإجراءات التفتيش الدقيقة في مداخل المحلات التجارية ومحطات المترو والمطارات والفنادق... في تلك الأجواء المشحونة، كان الجميع- وأنا منهم- يخشون أن يؤثر ذلك الجو المتوتر وتلك الإجراءات الأمنية المشددة على إقامة معرض المملكة في باريس، ولكن الله سلم، فتوقفت العمليات الإرهابية- وإن لم تخف الإجراءات الأمنية-، فكان ذلك المعرض الكبير نهاية سعيدة ومفرحة لعام مأساوي. والمفارقة هي أنه قبل أقل من عشر سنوات كان الإمام الخميني، قائد الثورة الإيرانية، مقيماً على الأراضي الفرنسية لبضعة أشهر، هو والعشرات من أتباعه، ويعمل بكل حرية، قبل أن تقله إلى طهران هو وأتباعه رحلة خاصة لإحدى طائرات أير فرانس. تلك كانت بعض الخواطر التي أثارتها مذكرات الحجيلان في الذهن، وأوقن بأنها مذكرات تحتاج إلى المزيد من التعليق والتأمل. 2 شعبان 1446 هـ، 1 فبراير 2026 م