في ديوان (حافَّة سابِعة) لمحمد إبراهيم يعقوب..

تساؤل الذات والحوار الشعري القصير.

يحضرُ التساؤل في ديوان (حافة سابعة) لمحمد إبراهيم يعقوب كإحدَى التقنيات المستخدمة؛ بهدفِ الوصول إلى فتح آفاق أرحب، فمع التساؤلات تحضر الإجاباتُ وتتعدد الرؤى والمواقف وتنكشفُ التفاصيل، وهكذا تضج القصيدة بالحياة، ويغدو لكلِّ كلمة قصد وهدف، اعتماداً على الاقتصادِ والتكثيف، فالسؤال اختصارٌ وتحديد والجواب تعيينٌ ودلالة. يشتركُ في الحوار طرفان يمثِّلان الذات، أحدهما الذاتُ الفعلية أو الشاعرة، والأخرى ذات متخيَّلة تضيءُ جوانب الذات الفعلية وتكشف آفاقاً لا تستطيعُ بلوغها؛ لعبة لغوية تتمثَّل في الظهور / الاختفاء، أو “التجلي / التخلي”، وهما حافتان من حوافِّ الديوان، يضيئان على “حافة التساؤل” ويكشفانِ أسرارها. المقطوعاتُ الشعرية القصيرة ضِمن “حافة التساؤل” تعتمدُ المحاورة بين ذاتين؛ ما يجعلُها تتقاطعُ مع المسرح والرواية والقصة، مع اتِّجاهها ناحية التكثيف الشديد للصِّيغ واقتصارها على الإيجازِ في الجواب، وهو ما يناقضُ الفنون السرديَّة ويختلف عنها. أسئلةٌ محدَّدة وموجزة وإجابات دالَّة وموحية، تتضمن اختلافاً في الرؤيةِ والموقف، حيث يضعُ الشاعر ذاته موضع السؤال، وأحياناً موضع الإجابة، إذ ثمَّة تبادل للأدوار بين شخصيتين، تتيحانِ للشاعر انتقالاً سلساً، دون تأثيرٍ على الصياغةِ والإيقاع، أو التشويق والإدهاش، فمع السؤالِ يأتي الانتظار، ومع الإجابة تتخلَّق الرؤية، وهو ما يقرِّب أسلوبها من أساليب أهل الطرق الصوفيَّة. معَ الإيجازِ والاختصار في الأبيات يأتي الإيجازُ والاختصار في القصائد، إذ تأتي أبياتاً محدودة أقلها بيتانِ وأكثرها أربعة، وكأنها قصيدةٌ واحدة ممتدَّة، يفصلُ بين أجزائها توقُّف وانتقال من تساؤلٍ إلى إجابة ومن إجابةٍ إلى تساؤل، حيث الابتداءُ بالوجودي والانتهاء بالمعاشِي. منذُ البدايةِ يحضر تبادل الأدوار بينَ الذوات، فالأولى تسأل: “هل ذقتَ؟”، ليأتي الجواب: “لم أدنُ”، لتمسكَ الثانية دفَّة الحوار وتسأل “ما الخلاص؟”، لينتهي الحوارُ بإجابة مفتوحةٍ على التأويل: “تورطُ!”، ثم تتجهُ لنقض الثوابت الراسِخة، بعد توقُّف قصير وانتقالٍ من بيت شعري إلى آخر؛ ما يتيحُ وقتاً للتأمُّل وإعادة التفكير (ما الخلاصُ): “-هل ذقتَ؟ -لم أدنُ -التخلي مرةً فاختر خلاصكَ؟ -ما الخلاص؟ -تورطُ! -آمنتُ -لا تؤمن كثيراً -دُلَّني.. -كن نجمةً إن لم تضئ لا تسقطُ!!” ينتقلُ من التعريف إلى التعرُّف، فبعد سؤال “ما الخلاص؟” والإجابة بأنَّه “تورط!”، يأتي الحوار بينَ الذوات كي يضيءَ هذا التورُّط، مبيناً نوعه وكيفيته وعلاقتهُ بالحياة (لا شجرُ يطيعُ): “-وماذا عنك؟ -لم أحزن لنفسي.. -تضيعُ الروح؟ -من يدنو يضيعُ” الضياعُ هويَّة الإنسان في وجوده وأبرز سمةٍ من سمات حياته، لهذا يؤطِّره ويحدِّد أبعاده (تعريفات وجودية): “-ما الحبُّ؟ -أن نفنى. -القصائد؟ -أن نرى. -والحزن؟ -إثمٌ فاتهُ أن يُغفرا! -سنحنُّ؟ -أحياناً. -سنبكي؟ -ربما. -سنعيشُ؟ -لن ننسى ولن نتذكّرا!” يتواصلُ طرح الأسئلة وكشفُ الإجابات إلى أن تصبحَ الحيرة طاغية، فما بينهما مواقفُ ورؤى وأرباحٌ وخسارات، لكن الخسارات أكثرُ وأعظم، وتعليلُها لا يعدو أن يكون هرباً من المواجهة، لهذا تلجأُ الذات إلى (مجازفة لا بد منها): “-هل نطرق الباب؟ -طبع الباب.. -كيف نرى ما خلفهُ؟ -لا تخف من جرّبوا ذاقوا!” الحياةُ ليست قانوناً ثابتاً، إذ تتبدَّل وتتغيَّر، ومع التغيُّر تتبادلُ أدوار الذوات، ليغدو طارحُ الأسئلة مجيباً عنها والمجيبُ هو مَن يطرحها (تغيَّر!): “-تغيّر.. -ما التفاصيلُ -امتحنها -ولكن.. -كلنا قد ذاق منها -سأفقدُ.. -ما الذي تخشى؟! -اتّساعي! -تضيقُ نفوسنا إن لم نخنها!!” فقدُ الرتابة مدعاةٌ للندم ولومِ النفس، لهذا لا يتغيَّر من لا يكون شجاعاً ويبادر إلى المجازفةِ وارتكابِ الأخطاء، هذا هو “طبع الحياة”، ونحن سنظلُّ أسرى ما “نحبُّ ونشتهي!!” إلى أنْ “ننضج” (كستناء ناضج): “-هل لُمتَ نفسك؟ -لم أذق شجراً! -وهل أدركتَ؟ للأخطاء طعمٌ طازجُ” معَ اللومِ تأتي الأحزان، ومع ارتكابِ الأخطاء وتصحيحها تعودُ البسمة والسعادة، فكن “ككل الحالمين”، إذ “الحياة قصيرة” ولا تنتظر (ما السعادةُ؟) “-ولكن ما السعادة؟ -كبرياءٌ.. -وفخٌّ؟ -لا نعيشُ بلا فخاخ! -غرورٌ طارئٌ؟ -يكفي. -بتاتاً! -إذن قاوم وكفَّ عن الصراخ!” المقاومةُ أن تخوض الحياة بكَاملك، حيث الحزن والسعادة يمثِّلان قدر المرء، وعليه أن يتعايش معهما ويعتادَ عليهما (الحبُّ والحرب): “-في الحرب أسباب الهزائم تنتهي -في الحب؟ -كل هزيمةٍ إنسانُ!” تتقاطعُ مقطوعات “حافة التساؤل” مع الفنون السردية، إذْ تستعين بالإيجاز والتكثيف ولُغة أهل الطُّرق الصوفية، ضمن قالب حواريٍّ؛ بهدفِ الوصول إلى فهمٍ أعمق للوجود، وتقبُّل أعلى لخساراتِ الحياة؛ ما يدفع تِجاه ممارسة أفضلَ للعيش، وتحمُّل أكثر للأحزانِ والأوجاع.