قيافة!

 عدّ بعض النقاد والبلاغيين ما فعله طرفة ببيت امرئ القيس سلخا، وأدرجوه ضمن السرقة المذمومة، وخالفهم السبكي بأنه من التوارد الجائز حتى مع تطابقه، وحاول الغذامي أن ينفيه من معلقة طرفة لأنه ليس من نسيجها.. ورأيي أن البيت من المعلقة وأن طرفة لم يسرقه ولم يسلخه، ولا حتى هو من توارد الخواطر؛ بل قصد إليه قصدا فوظّفه باعتباره يمثّل حالته، فكان من جنس التضمين المقترن بشهرة صاحبه، إذ تحل شهرة امرئ القيس هنا محلّ الإشارة النصيّة.. وعليه فليس لطرفة هنا سوى لفظة القافية «تجلّد» التي حلّت محل «تجمّل»، وفي التجلّد زيادة معنى على التجمّل، وهذه الزيادة التي ظفر بها طرفة هي، فيما يبدو، ما يعزز أن صاحب الدالية أراد أن يقول لنا إنه بكى بكاء سلفه، ووقف وقوفه، ولكنه سيسلك مسلكا آخر في معلقته، هو المسلك الشعري الخاص الذي تفرّد به على لاحبٍ كأنّه ظهر بُرجِدِ! فإذا اعتبرنا هذا البيت من التضمين المقصود من جهة شهرة امرئ القيس، ومن التقليد الفني المرتبط بالطلل من جهة أخرى ظهر لنا أن البيت ينطوي على دلالة ضمنية عميقة تليق بفرادة طرفة وفرادة معلّقته، ومن ظفر بهذه الفرادة فلا حاجة له إلى السرقة أو السلخ، لأنه معنيّ أكثر بإحداث أثر جديد على الطريق السالكة التي سلكها الشعراء وليست القافية هنا سوى علامة لغوية على هذا المسلك. وممّا يعزز هذا الرأي أن القافية هي مركز القصيدة عند العرب، يسمّون القصيدة بها وينسبونها إليها، فلا يبعد عندهم أن تكون هي الحبل السرّي بين الشاعر وبينها وهي التي تمنحه ملكية القصيدة. ويبدو لي أن قيافة الشعر كقيافة البشر تبدأ من الأطراف أحيانا، فالقافية هي موضع القيافة التي بها ترى أوّل ملامح الشاعر في قصيدته باعتبارها مركز الإيقاع في نهاية البيت.