تراث الجوف.. الهوية والهوى.

عن التاريخ الممتد في نبض المدى، عن القصائد المغزولة في جدائل الشمس المُنسابة على الثرى. عن ملامح “زعبل” وكبريائه العتيد، عن تفاصيل الشموخ في عينيّ “مارد” الشاهق البعيد. عن الوشوم في وجوه الجدات، عن الأهازيج المعزوفة على أصوات السواني، عن الحكايا التي غُرست في القرى وبين أغصان الليمون وجداول المياه، عن الحياة التي أسرجها المُزارع بين النخيل الجليل والزيتون الظليل. عن القصائد التي نسجها ابن الصحراء في الرمال الوفية، عن وجوده الثمين المكين، وابتكاره سُبل كل شيء من اللاشيء ، عن “نقش الجمل” النابض بحضارة الإنسان والمكان، عن الضوء الذي ملأ بساتين وصحراء الجوف بالثقافات والحضارات. هنا في جوف التاريخ يشرق وجه التراث عمراناً باهراً، وفكراً ماطراً، أثراً عامراً. من هُنا ابتدأ الإنسان المتحضر خطواته الأولى، ليرسم حاضراً ممتداً من الإشراق والانطلاق، هُنا قرية “الشويحطية” في منطقة الجوف التي يعدّها كثيرٌ من الباحثين أقدم موقع أثري استوطنه الإنسان في الجزيرة العربية، حيث وجد الباحثون وبيّنت الاكتشافات الأثرية احتوائها على مواقع لتصنيع الأدوات الحجرية التي استخدمت في توفير الماء والطعام وسُبل العيش الأولى. من الجوف بدأ الإنسان برسم حضارته التي خُلّدت في دساتير التاريخ والمجد، من هنا جاءت الفكرة فابتدأ في صناعة موروثه بياناً وعمراناً وأدوات تمكينٍ وتحسين وحياة. التراث بشقّيه المعنوي (فكراً وأدباً وتقاليد) و الماديّ (عمران وأدوات ونقوش وحرفيات) ليس مجرد تاريخ عريض للاعتزاز فحسب بل هو إرث ضخم يتحدث عن تجذّر الإنسان وتحضّره وقوته واستمرارية إبداعه ولعلي أقرأ الأمر في ثلاثة جوانب: 1| جانب حضاري : هذا التراث الثمين يُفصح للعالم عن أننا أبناء حضارة استثنائية، لقد صنعت عقولنا أعظم الأفكار والتشريعات التي نظّمت السلوك وأرشدت الأذهان، وأخرجت أرواحنا أعذب وأنبل القصائد والعِبْر والحكايات التي هذّبت الجِنان والبيان ، إنّ لنا تاريخاً نبيلاً وحضوراً جليلاً وثقافةً راسخةً وإبهاراً طويلا. لنا منظومة إنسانية أخلاقية في أعماق التاريخ البشري، هذا المنظومة عملت وتعمل على تمتين واستمرارية البناء الإنساني وتضمن تحسّنه المستدام. 2| جانب مدني : فكرنا الحضاري المكين لهُ تمظهرات عظيمة في حياة أجدادنا ، فهم الذين بنوا القلاع الشاهقة التي صُممت بفكرٍ هندسي متجاوز للزمن وباحترافية وجودة عالية جعلتها عصية على الانحناء رغم تطاول السنين وتبدّل الأحوال، فلدينا في الجوف قلعتا “زعبل” و”مارد” اللتان بقيتا معالم شاهدة على عبقرية الإنسان و إبداع يديه رغم مئات بل آلاف السنوات والتغيّرات. 3| جانب مهاري: إن موروثاتنا قلاعاً عتيدة أو نقوشاً دقيقة أو أدواتٍ فريدة أو حِرفاً مُنتجة، تُحيلنا إلى عظمة الجانب الوجداني والمهاري و الذوقي لدى إنسان هذه الأرض، فهو ابن الصحراء بهيبتها وعظمة اتساعها وعرامة معتركاتها، وهو ابن الشمس الدافئة والخزامى الشفيف وبيت الشَعرالمغزول بألوان الحياة، إنه الإنسان العصيّ على الانكسار وهو المبتكر والمُنتج والفنّان. إنها الجوف إنساناً ومكاناً من أعمق وأخصب نقطة في الوجود البشريّ، فهُنا الفكرُ والشعرُ والابتكارُ وتجويد الحياة، وهُنا الماء والاخضرار والترابُ الخصيب، والشمسُ الهادرة بالابتهاج والضوء الوهاج، هنا عاصمة التراث والطاقة والغذاء. هذا الجوفُ المعطاء في ظل رؤية 2030 المضيئة وفي كنف أميرهِ فيصل بن نواف بن عبدالعزيز يضيءُ أخضر الهوى والهوية ، امتداداً لوطنٍ عظيمٍ حافلٍ بتاريخٍ ضخم تفكيراً وتعميرا ، أدباً وعملاً وأملاً وطموحاً تجاوز السماء. * شاعرة وكاتبة منطقة الجوف