ما بين فجوتين.
تلك الفجوة العظيمة ما بين تراثنا الشعري الذي طالما ملأت معانيه قلوبنا مشاعر كثيفة ما بين فخر وعزة حينا وأسى ومواجع أحيانا، وما بين العلم الحديث الذي عصف بكل مفاهيمنا وأعادنا إلى نقطة الصفر أو كاد بتفسيراته المتجردة، هي فجوة مهولة حقا. فحين ترى المهلهل رمزا للبطل الوفي لدماء أخيه المفاخر ببطولاته رغم جراحه حين يهتف: لم يَرَ النّاس مثلنا حين سرنا نسْلُب الملك بالرماح الطِّوالِ يوم سِرنا إلى قبائل عوفٍ بجموعٍ زهاؤها كالجبال يخبرك علم النفس أن الرجل مصاب باضطراب الشخصية الحدي الذي ورثه من أخيه والذي حوله فجأة من معاقر للخمرة إلى مُسَعّر حرب كاد أن يفني قومه وأعداءه في حرب امتدت لأعوام ولم ترضه الدماء التي سكبت ولم يقبلها فداء ورضي أن يسجله التاريخ قائدا دمويا وهو يعتبر الأمر فضيلة وإقداما. وعلى ضفة أخرى سيخبرك عن البهاء زهير الذي يمزق شعره الرقيق الوجدان كما يفعل حد ورقة بيضاء بنعومة وهدوء يتغلغل إلى القارئ إحساسه المضني بالفقد والذهول أمام فضاء شاسع موحش من مصيبة لا طاقة لقلبه بها ثم يحول هذا الوجع إلى قصيد تنفث الحسرة أنفاسها بين قوافيه: بروحي من تذوب عليه روحي وذُق يا قلب ما صنعت يداكا لقد بلغت به روحي التراقي وقد نظرت به عيني الهلاكا لك أن تتخيل أنه في دوامة هذا الوجع الذي يطحن الروح ثمة مدرسة تحليلية تتأمل من بعيد ثم تخبرك بكل برود: لا بأس الرجل واقع في مرحلة اضطراب ما بعد الصدمة ولذا هو يهذي بمشاعر غائمة، الزمن كفيل بشفاء جرحه سينتهي به المطاف إلى قصيدة حب يغازل بها الحياة من جديد. وربما أخبرك أن عنترة مصاب بجنون العظمة وأن شخصية امرئ القيس على درجة عالية من النرجسية.. وأنه من الأفضل لك أن تعيد حساباتك حول مشاعرك التي سفحتها على عتبات قصائدهم حتى لاتتهم أنت الآخر بأنك مختل وجدانيا.