النص الروائي ما بين السرد والمشهدية.
في عدد سابق من هذا الملحق، كتبت مقالاً أوضحت فيه أن النص الأدبي “الروائي” له القابلية إلى أن يتحول إلى فيلم سينمائي أو عرض مسرحي مشيراً في المقال نفسه الى فكرة مؤداها بتداخل الأجناس الأدبية في كثير من النصوص، ما فتح لنا المجال للبحث والتساؤل حول تأثير العرض المسرحي والسينمائي بشكل خاص، وتأثيره في الكتابة وإنتاج نص روائي أقرب ما يكون إلى العرض منه للقراءة، في محاولة إلى الاقتراب إلى المتلقي المنبهر بالمشهد البصري أكثر من المشهد المتخيل الذي يرافق القارئ. وبما أن الرواية بناء سردي يتأسس على عناصر الرواية؛ إذ لا يمكن أن نتصور رواية ما دون نسيجها الثابت الذي تبنى عليه الرواية والمتحكم في إيقاعها وضبطها عبر الشخصيات والأحداث والزمان والحوار والحبكة في عملية ديناميكية للحكاية مستندة إلى التشكل الدلالي اللغوي المتمثل باللغة السردية كوسيلة لتحريك الأحداث وإكمال النقص الذي يفتقده القارئ بعرض التفاصيل، وخلق مشهد تخيلي يتولى الراوي التحكم في زمام العمل ككل ورسم صورة بانورامية مخططه لما يخدم المعنى المراد الوصول إليه معتمدا على اللغة الأدبية والأسلوب المختلف عن الأساليب الخطابية ليتحكم بسير الأحداث وفق سلسلة من المشاهد المتصلة. المفارقة أن دعاة التجريب المنشغلين بإحداث التغيرات في المبنى الحكائي كلما ابتعدوا عن جنس أدبي اقتربوا من جنس أدبي آخر، ففي المسرح الملحمي سنجده مخالفاً للمسرح الأرسطي، والاستعانة بالحوار السردي المتميز بالاقتضاب؛ مما ساهم في تسريع الحدث، إضافة إلى توظيف المونولوج في الشرح والوصف عن طريق شخصية تتقمص دور الراوي العليم في تلخيص الأحداث ووصف الشخصيات بأبعادها الداخلية والخارجية ولعنا هنا نرى اقتراباً كبيراً إلى فن الرواية. هذا الحال استثمره دعاة التجريب في الرواية حينما يتجه الكاتب إلى الحوار المكثف “المسرحي” ليدفع بالأحداث والإفصاح عما يريد الكاتب التعبير عنه والاستغناء عن كثير من التقنيات السردية واللجوء إلى السرد المتداخل “المعترض” الحاصل بين لحظات الحوارات مما قد يشكل لبساً لدى القارئ المنطلق من أفق توقع كلاسيكي، وعلى أن ما يكتب يُعد من أصعب أنواع التقنيات السردية كما يرى الناقد الفرنسي جيرار جينيت، إلا أنه أصبح أسلوباً دارجا ليتجاوز مرحلة التجريب إلى الاستقرار إلى حد ما. وقد برع في هذا النمط الروائي التجريبي الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا في روايته الشهيرة بيتاليون والزائرات، والتي نقلها إلى اللغة العربية المترجم صالح علماني وسنذكر نموذجاً قصيراً يظهر فيه الحوار الطاغي في الرواية، ونكتشف السارد الضمني بين الحوارات، ومثالاً على المنهجية الكتابية في الرواية. (لا شيء يا أماه لا شيء يا بوتشيتا السارد: يربط بانتا حزام الأمان إنني على ما يرام لم يحدث لي شيء، انتظر ها نحن نصل، لا بد أن هذا هو نهر الأمازون أليس كذلك؟ طوال هذه الأيام تبدو كأنك تحولت إلى أبله السارد: تضع بوتشيتا النظارة الشمسية، وتخلع المعطف لا تنطق بأي كلمة تحلم بعينين مفتوحتين. أي جحيم هذا لم أرك متغيراً هكذا من قبل يا بانتا كنت قلقاً بعض الشيء من وجهتي الجديدة، لكن هذا انتهى.) بقدر ما تحدثنا من وصف جانب من جوانب التجريب بتحول الرواية من التقنية السردية المتعارف عليها إلى رواية مشهدية “تلجأ إلى تقديم الشخصيات في حوار مباشر” بمعنى أن يتغلب الحوار على السرد، ولعل هاجس التجريب والخروج عن المألوف في الكتابة الروائية مدفوع بمزاحمة طغيان العرض المرئي من حيث الشكل أو المضمون كما هو الحاصل في المسلسلات والأفلام. قد لا أعد أن الرواية المشهدية تعتبر خرقاً للحدود الصارمة الفاصلة في الرواية، بل محاولة بناء داخلي يعكس التجربة الداخلية للكاتب في إطار عام محتفظاً بالعناصر الأساسية للرواية وخرقاً لنمطها وطريقة عرضها، ومن جهة أخرى يعد الأسلوب السردي المهمة المعقدة والمربكة في بناء رواية تجريبية، وتمنع الالتباس لدى المتلقي المتعود على قراءة الروايات الكلاسيكية.