النميمة.. قراءة نقدية.
![](http://alyamamahonline.com/uploads/1738750602.jpg)
في هذا المقال، لن أُحَلِّق في فضاء الوعظ، فلن أكون أبلغ من الأنبياء والمرسلين الذين حرموا “النميمة” وحذروا من عواقبها، ولن أدّعي الطهرانية، فقد ألهم الله النفس فجورها وتقواها، لكنني سأحاول مقاربة هذه الظاهرة الاجتماعية دون التعمّق في بحارها المظلمة، متناولًا أبعادها الفلسفية، والنفسية، والاجتماعية، إضافة إلى تحليل سبب انجذاب البشر إليها أكثر من المديح. فـ”النميمة” ليست مجرد حديث عابر، بل هي ظاهرة اجتماعية معقدة تتداخل مع مجالات المعرفة، والأخلاق، والتربية، وعلم النفس الجماهيري. وهي تؤثر في بنية المعرفة الجماعية، إذ قد تعمل على نقل المعلومة أو تُسْهِم في تشويهها، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في تشكيل التصوّرات الاجتماعية عن الأفراد والجماعات. فقد كانت “النميمة” - عبر الأجيال ولا تزال - جزءًا من التواصل الإنساني، وموضوعًا للتحليل الفلسفي والنقدي العميق. النفس البشرية – كما خلقها الله تعالى – بالغة التعقيد، حيث تنجذب بطبيعتها إلى ما يثير الفضول، ويشبع الرغبة في المعرفة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالآخرين. فعندما يسمع الإنسان نميمةً أو أخبارًا سلبية عن شخص ما، فإنه يشعر بمزيج من الفضول، والإحساس بالتفوق، والاستمتاع بالتسلية، بل وأحيانًا الراحة لكونه ليس في موضع النقد، وعلى العكس، فإن سماع المديح من أحد لآخر، رغم كونه أمرًا جميلًا، فإنه لا يثير نفس الحوافز العاطفية العميقة التي تثيرها “النميمة”. البشر لديهم تعطش فطري لمعرفة ما يجري خلف الكواليس، فـ”النميمة” تُشعر السامع بأنه اكتشف معلومةً خفية أو سِرًّا محجوبا، مما يخلق نوعًا من الإثارة والمتعة. ومنذ القدم، كانت القصص والشائعات تستهوي الناس أكثر من الحقائق الجافة. وعندما يسمع الإنسان أخبارًا سيئة عن الآخرين، يتولد لديه – ولو بشكلٍ لا واعٍي – شعور بالراحة أو التفوق، لأنه يرى أن غيره يواجه مشاكل أو يتعرض للنقد. وهذا يعزز (الأنا) لدى الشخص ويجعله يشعر بأنه في وضع أفضل مقارنةً بمن يُتَكَلَّمُ عنه. “النميمة” غالبًا ما تكون مليئة بالمفاجآت والعواطف، مما يجعلها أكثر جاذبية من المديح، الذي يكون هادئًا ومستقرًا. لاسيما أن العقل البشري مبرمج للانجذاب إلى الأحداث الدرامية المليئة بالصراعات، تمامًا كما يفضل المشاهدون الأفلام التي تحتوي على حبكات معقدة، بل إن بعض الأفراد قد يشعرون بالغيرة أو بالمقارنة غير العادلة، عندما يسمعون المديح لشخص آخر مما يولد لديهم شعورًا بعدم الراحة أو الدونية. بعكس “النميمة” التي تمنح المستمع شعورًا بالاطمئنان لأنه لا يُوضع في موضع المنافسة، بل يبقى في موقع المتلقي المراقب. في العديد من المجتمعات، تصبح “النميمة” أداة للتواصل الاجتماعي، حيث يجتمع الناس حولها وينسجون الروابط من خلالها. فالشعور بالانتماء لجماعة تتشارك المعلومات فيما بينها يجعل “النميمة” أكثر جاذبية، لأنها تمنح الشخص الإحساس بأنه داخل دائرة المعرفة الخاصة. هذا وتشير الدراسات النفسية إلى أن الدماغ البشري يميل إلى التركيز على الأخبار السلبية أكثر من الإيجابية، فيما يُعرف بـ ” التحيز السلبي Negative Bias-” هذا التحيز يجعل الأخبار السلبية أكثر لفتًا للانتباه وأسرع في الانتشار، لأن الدماغ يراها أكثر أهمية للبقاء والتكيف، حيث يرى “سيغموند فرويد1856م-1939م” أن “النميمة” جزء من التعبير اللاواعي عن الرغبات المكبوتة، بل إنها وسيلة دفاعية تتيح للأفراد التنفيس عن مشاعر الإحباط، أو الحسد، أو الكراهية، تجاه الآخرين دون مواجهة مباشرة. في المقابل، يرى “كارل يونغ 1875م -1961م” أن “النميمة” قد تكون مظهرًا للإسقاط النفسي، إذ يُسقط الأفراد مخاوفهم وانحرافاتهم على الآخرين عبر تداول الشائعات، سواء كانت صحيحة، أو مشوهة أو – حتى - مفبركة. أما في مجال الفلسفة الاجتماعية، فقد تناول الفيلسوف الألماني “جورج زيمل 1858م. – 1918م.” الأثر الاجتماعي “للنميمة” في إطار مفهوم “الحلقات الاجتماعية” حيث اعتبرها - رغم إمكانية استخدامها لأغراض خبيثة - تلعب دورًا في ضبط السلوكيات غير المرغوبة، وذلك من خلال فرض رقابة غير رسمية على الأفراد. بينما يرى “جان جاك روسو 1712م. – 1778م.” أن “النميمة” تنبع من غياب التربية الأخلاقية الصحيحة، وأن المجتمع مسؤول عن انتشارها نتيجة ترسيخ القيم الاستهلاكية والمادية التي تدفع الأفراد إلى الانشغال بسلوكيات الآخرين بدلًا من تطوير أنفسهم. أما في نطاق الفلسفة السياسية، فيرى “نيكولو مكيافيلي 1469م. – 1527م.” أن “النميمة” أداة سياسية تُستخدم للتأثير على صورة الخصوم، معتبرًا أن المعلومات، سواء كانت صحيحة أو مغلوطة، جزء لا يتجزأ من أدوات السلطات. وهذا يفسّر كيف تُستخدم “النميمة” كأداة في الحروب الإعلامية، مما يجعلها عنصرًا جوهريًا في إدارة الصراعات داخل المجتمعات والدول. رغم أن “النميمة” قد تبدو مستساغة لدى البعض – حتى ولو كان طعمها مر - إلا أنها تحمل آثارًا سلبية على العلاقات والثقة بين الناس، ومن الحكمة أن يستبطن الإنسان مشاعره، ويدرب نفسه على الاهتمام بالمعلومات الإيجابية والمحفزة، وأن يوازن بين ما يسمعه وما يقوله، حتى لا يصبح أسيرًا لهذا السلوك – القهري - الذي قد يؤذي الآخرين ويدمر العلاقات بينهم. فالوعي بهذا الميل الطبيعي يساعد في مقاومته، وجعل التفاعل البشري أشد نقاءً، وأكثر فائدة. على ضوء كل ما سبق يبدو أن “النميمة” ليست مجرد ممارسة سطحية عابرة، بل تمتلك جذورًا فلسفية ونفسية واجتماعية عميقة، تجعلها ظاهرة متعددة الوجوه والأبعاد. وبناءً على ذلك، يمكن أن تكون “النميمة” أداة اجتماعية تؤدي أدوارًا متناقضة، فمن جهة، قد تُسْهِم في تعزيز الترابط الاجتماعي من خلال تبادل المعلومات، ومن جهة أخرى، يمكن أن تُستخدم كسلاح للإقصاء والتشويه، مما يؤدي إلى اهتراء النسيج المجتمعي، وعلى كل هذا وذاك يتحدد تأثير “النميمة” على وعي الأفراد والجماعات، وعلى قدرتهم على تمييز المعرفة، والتفريق بين الحقيقية، والإشاعة. وكما أشار الفلاسفة والتربويون، فإن الحل لا يكمن في قمع “النميمة” ومحاصرتها، بل في تقوية التفكير المنطقي، وتعميق التحليل النقدي لدى أفراد المجتمع، وخاصة الأجيال الشابة.