
بدأ الخطاط عباس البغدادي، رساماً أكاديمياً محترفاً ومتميزاً، له عين صائبة وصائدة في رسم الزوايا والضوء والظل والأبعاد باحترافية عالية جداً، في رسمه للبورتريت، بقلم الفحم والرصاص، الذي كانت له سلطة مطلقة فيه، وكانت العديد من رسومه تلك معلقة، مع لوحاته الخطية، على جدران مكتبه الكائن في منطقة الأعظمية، ببغداد، حتى مغادرته العراق.. وقد حاز في حينه على جائزة بغداد لأفضل الرسامين الشباب (بغداد) لعام 1969. لا أدري كيف أقنعته والدته بترك الرسم وهو في أوج قمة عطائه الفني الثر المتواصل في الرسم، الذي برز بقوة، وهو في ريعان شبابه.. حيث حدث في يوم ما، بوالدته تدعوه إلى ترك “الرسم”، بعذرها أنه (حرام)، وأشارت عليه البديل عن الرسم وهو ممارسة “كتابة لوحات خطية كبيرة” مستلهمة من القرآن الكريم، بما فيها من بركة ورزق وخير.. وأدب إسلامي متأصل في حياتنا اليومية.. (نزولاً عند رغبة والدتي، رحمها الله، تركت الرسم، عندما قالت لي: “يمه أكتب آيات قرآنية وعلقها بالبيت حتى نتبارك بيها...”). وهكذا.. فعلاً، تغيرت مسيرة حياة عباس البغدادي الرسام، بدرجة وانعطافة كبيرة، من فن الرسم وعالمه الساحر.. إلى عالم فن الخط العربي، الأكثر سحراً وجمالاً.. ومكانة، وكأنه قدره المكتوب والصحيح والمبارك أن يكون خطاطاً فريد زمانه، ليقود هذا الفن من جديد إلى جادة الإبداع والتواصل، والتجويد الصحيح واللائق.. ويكون فيما بعد قدوة فريدة في العالمين العربي والإسلامي على مدى مسيرته التي بدأت منذ بداية العقد السعبيني.. حتى رحيله. ولكن فن الرسم لم يذهب سدى، فقد كان له بمثابة الأرض الخصبة والمهيأة له، ليبرز فيه في مجال الخط العربي، لأن كتابة الحروف العربية في جميع أنواعها تعتمد على دقة “رسم” الحرف وتفاصيله الدقيقة وخصوصاً في ترويسات بداية الحروف ونهاياتها وسحباتها الطويلة، وحتى في كتابة الحرف نفسه بحاجة إلى بصيرة رسام جاد لكي تظهر صور الحروف بأبهى أشكالها المقبولة.. حيث كان البغدادي “يؤكد” دائماً على نجاح كتابة الحرف من خلال البصر، التي جسدها بمقولته الشهيرة “عينك ميزانك”، وكانت يده مجرد وسيلة تنفذ الحرف على اللوحة.. من خلال عينيه الثاقبتين في عمق صورة الحرف العربي. ويعد الخطاط العراقي البارع عباس شاكر جودي المعروف فنياً بـ (عباس البغدادي) مواليد بغداد 1949، من أبرز رموز وأعمدة فن الخط العربي في العالمين العربي والإسلامي عموماً، وقد تربع عرش الإبداع والشهرة، لما يمتلكه من قوة كتابة الحرف، وحس فني مرهف وفائق، وحدس هندسي وحسابي دقيق في تشريح الحروف ونسبها الذهبية في جميع أنواعها، وقد تمكن من تطوير إمكانياته الخطية بشكل فردي وموهبة فذة، لم يدرس على يد خطاط، وإنما درس على نفسه من خلال الاطلاع الدقيق والواسع على ما خلفه الأفذاذ من الخطاطين، ومنهم الخطاطون الأتراك خصوصاً. فهو يكتب بقوة وجودة حروف الخطاط سامي التركي، ورشاقة وانسيابية حروف الخطاط شوقي، والتراكيب الفنية المتميزة للخطاطين نظيف وحامد الآمدي. فهو الموهبة الفريدة التي تقف على مراحل مسيرة الخط العربي المتعددة منذ المدارس الخطية الكلاسيكية القديمة.. حتى المرحلة المعاصرة الحديثة وهو من فرسانها. أطلق عليه عدة ألقاب وصفات معنوية وملموسة تليق به ويستحقها على واقع الحال، منها: “مهندس الحرف العربي”، و”ميزان الخط العربي”، و”سلطان الخط العربي”، بما يمتلكه من سطلة وهيمنة فريدة ومتميزة في مسيرة الخط العربي، بشهادات كبار الخطاطين في العالم. وتكمن ميزة إبداعه هذه في قوة تجويد الحرف، ومنحه استحقاقه في القواعد والنسب المقبولة والمتوازنة، ونظافة الحرف نفسه، وتميز قوة تركيب الجمل، في كل أشكالها الهندسية، وجمال إخراج اللوحة الخطية، بشكلها المتوازن في الكتلة والفراغ واللون والتواتر اللفظي في النص.. فضلاً عن زخرفته الرائعة، وهو مزخرف مبهر أيضا، لكنه توقف عنها لانشغاله وتفرغه للخط حصراً. كراساته التعليمية والفنية: وقد أنتج البغدادي من اللوحات الخطية ما لم ينتجه خطاط قبله لا من العرب ولا من الاتراك. فضلاً عن ثمرة إنتاجه المنتشرة والموثقة في ثلاث كراسات للخط العربي بصيغه لا تشابه الكراسات الأخرى من حيث طريقة التعليم. ويستطيع البغدادي الكتابة على أي طريقة من طرق الخط العربي منذ الوهلة الأولى، ولكن كراساته الثلاث لها طابع خاص من المدرسة البغدادية بأسلوب البغدادي المتفرد نفسه. من الأثار العلمية والفنية التي خلفها لجميع الأجيال القادمة من الخطاطين، هي عصارة جهده المتواصل ، التي جمعها في كراسات خطية خالدة، التي أنتجها ومنها كراسته الأولى: (ميزان الخط العربي)، الجزء الأول، الصادرة سنة 1988، لتعليم خط “الثلث” ابتداء من كتابة الحروف المفردة، بالتفصيل وتشريح جسم الحرف وفق قياساته بميزان التنقيط، ثم اتصالاته بالحروف الأخرى المتوسطة، ثم المتصلة في النهاية، ثم كتابة الكلمة كاملة في مكانها الصحيح في النص، مع التشكيلات والتزيينات الخاصة بخط الثلث، والكراسة الثانية: (تحفة الميزان) لمجموعة شاملة لأنواع الخطوط العربية، (الثلث، والنسخ، والتعليق، والديواني، والجلي ديواني، والرقعة، فضلاً عن مجموعة من نماذج اللوحات الفنية المتكاملة)، وقد أعدها وطبعها على نفقته الخاصة تلميذه المخلص رعد الدليمي، وبإخراج فني رائع في أرقى المطابع التركية، التي لا تشبه الكراسات الخطية الأخرى، وهي قمة الجمال والروعة لأنها كتبت بنسبة 1/1 وفي ذلك صعوبة يعرفها الخطاطون. والكراسة الثالثة: (النسخ المصحفي) وهي رائعة أخرى متخصصة في تعليم خط النسخ تشريحا وتفصيلاً. بعد العام 2003، هاجر البغدادي من مسقط رأسه في منطقة الأعظمية، التي لم يستطع مفارقتها إلا على مضض واستقر في المملكة الأردنية الهاشمية، من الأعوام 2003 - 2008. حيث قام بتدريس مادة الخط العربي في عمان، ثم هاجر بعدها إلى أميركا، بعدها أستقر في المملكة العربية السعودية، وقام أيضاً بتدريس مادة الخط العربي، وقد تتلمذ على يده الكثير من الخطاطين.. بعدها عاد إلى أمريكا لغرض العلاج الطويل، لتكون نهاية حياته هناك. من إنجازاته الفنية: صمم وثائق: شهادة الجنسية العراقية، وهوية الأحوال المدنية، وجواز السفر العراقي والعملة العراقية وشعار الدولة العراقية.. ومصحف خاص سنة 1998، تم استنساخه بالأسود والأبيض وعرض في متحف الساعة الخاص برئاسة الجمهورية. كتب العديد من اللوحات الخطية على جدران المساجد في بغداد، وبعض الدول العربية. فضلاً عن تدريسه لمادة أصول وقواعد الخط العربي.. حاز جائزة الكوفة الثانية، في مهرجان بغداد العالمي الأول للخط العربي والزخرفة الإسلامية/ 1988. عمل بصفة خطاط في الدار العربية للطباعة والنشر ودار الحرية للطباعة والنشر ببغداد/ 1975 - 1980. شغل وظيفة رئيس الخطاطين في الدولة العراقية 1988 - 2003. انتخب رئيساً لجمعية الخطاطين العراقيين/ المركز العام/ 1999 - 2003. وأستاذاً للخط العربي فيها 1975 - 1990. خط العديد من أغلفة الكتب العلمية والأدبية والثقافية والدينية. خط عناوين كتاب الكسوة الشريفة في مكة المكرمة/ 2006. شارك في المعرض الخاص للخط العربي في إمارة الشارقة (الإمارات العربية المتحدة) 2007. وصمم العملة الخاصة بإمارة أبو ظبي (الإمارات العربية المتحدة) 2007. درّس مادة الخط العربي بمعهد الفكر الاسلامي هرندن فرجينيا/ 2009. واقام فيها ورشة عمل في متحف ريجموند، فرجينيا/ 2009. أقام ورشة عمل في المتحف الاسلامي جورجيا/ 2009. استشارة في إنشاء متحف للمخطوطات العربية والإسلامية في مركز كندي، واشنطن العاصمة 2009. شارك في المعرض العالمي للفنون العربية والإسلامية/ 2009. توفي يوم 2/ 5/ 2023، أثر مرض عضال ألم به طويلاً.. بعيداً عن العراق.