أساطين المجمع اللغوي.

أُنشئ أول مجمع للغة العربية في “القاهرة” في عام 1932، بهدف المحافظة على سلامة اللغة، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدّمها، مُلائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يُحدّد في معاجم أو تفاسير خاصّة، أو بغير ذلك من الطُّرق ما ينبغي استعماله أو تجنّبه من الألفاظ والتراكيب، وأن يقوم بوضع مُعجمٍ تاريخي للُّغة العربية، وأن ينشر أبحاثاً دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغيير مدلولاتها. وقد حُدّد عدد أعضاء مجلس المجمع بأربعين عُضواً، من بين عُلماء اللغة العربية وآدابها، وقد ترأّس المجلس حين إنشائه الأستاذ محمد توفيق رفعت، وتولّى الرئاسة من بعده كلّ من الأساتذة: أحمد لطفي السيّد، د. طه حسين، د. إبراهيم مدكور، د. شوقي ضيف.. وغيرهم وقد كان من بين الأعضاء منذ إنشاءه الأساتذة: علي الجارم، عباس محمود العقاد، توفيق الحكيم، محمد حسين هيكل، أحمد أمين، د. أحمد زكي، أحمد حسن الزيات، الشيخ مصطفى عبد الرازق، الشيخ حمد الجاسر، إبراهيم عبدالقادر المازني، محمد كرد علي.. وغيرهم. ومن الطريف أن مرسوم المجمع نصّ على إمكانيَة أن يضُمّ بين أعضائه من هم ليسوا عرباً، وقد شهد الفوج الأول من أعضاء المجلس عدداً من العُلماء الأوروبيين، الذين كانوا كغيرهم من الأعضاء، يعكفون على صيانة اللغة العربية وحمايتها وتطويرها وسلامتها، ومنهم: •أوجست فيشر: وهو أحد كبار المُستشرقين الألمان. •د. انوليتمان: وهو مُترجم كتاب “ألف ليلة وليلة” إلى اللغة الألمانية. •الفرنسي لويس ماسينيون: وهو أحد أعلام المُستشرقين في القرن العشرين. وقد كان من الأعضاء غير العرب المُستشرق الإيطالي “كارلو نلينو”، الذي نظم الأستاذ علي الجارم هذه الأبيات في تأبينه: ولم أنسَ “نلينو” وقد جاء فيصلاً بحُجّةِ بَحّاثٍ ورأيٍ مُحَقّقِ وفِكرٍ له من فِطرَة الروم دِقَةً ومن نفحات العُربِ حُسنَ تألُّقِ يُنسّقُ عِلمَ الأوّلين مُجاهداً ولا خير في عِلمٍ إذا لم يُنسَّقِ تقاسَمهُ شرقٌ وغربٌ فألّفتْ مناقِبهُ ما بين غربٍ ومشرِقِ وقد كان هذا المُستشرق غزير العِلم بالجُغرافية والفلَك عند العرَب، وفي نفس الوقت فقد كانت لُغته العربية الفُصحى شيئاً نادراً. وقد جرى العُرف أن يقوم رئيس المجمع باستقبال العضو الجديد، في حفلٍ يُقام لهذا الغرض، ويُلقي كلمةً يُرحّب فيها بالعضو الجديد. وتحوي سِجلّات مجمع اللغة أطرف كلمة ترحيب قيلت من رئيسٍ في استقبال عضوٍ جديد في عام 1954، وكان هذا العضو هو توفيق الحكيم، وكان طه حسين هو رئيس المجلس في ذلك الوقت، وألقى كلمةً شديدة الطرافة، قال فيها: “خطر لي أن أصطنع في استقبالك مذهب “الجاحظ” حين عرّض لأحمد بن عبدالوهاب، فقال في أول رسالة “التربيع والتدوير”: (إن أحمد بن عبدالوهاب كان مُفرِط القِصَر، وكان يزعم مع ذلك أنه مُفرط الطول. وكان مُربّعاً، وكان يزعم مع ذلك أنه مُدوّر، وكان كبير السِنّ مُتقادم الميلاد، وكان يزعم مع ذلك أنه حديث السِنّ والميلاد). فما أظن مذهباً من المذاهب يليق باستقبالك إلا مذهب الجاحظ، لأنك خَلقت من نفسك شخصية لا تؤدّى إلا على هذا النحو، فأنت تتكلّف من الخصال ما ليس فيك؛ أنت جوادٌ وتزعم أنك بخيل. وأنت ماهر ماكر، ومُداور مُناور، وتزعم مع ذلك أنك ساذج، لا تُفرّق بين ما ينفع وما يضُرّ. وأنت صاحب جِدّ في حياتك، وصاحب جِدّ مُنتج، وقد ألقيتَ في روع الناس أنك لا تُحسِن إلا العبث والدُّعابة. وكذلك صوّرتَ نفسك للناس صورةٍ ليس بينها وبين الحقّ صِلَة. فخير أسلوب يُمكن أن يُتّبع في تقديمك إلى المجمع هو هذا الأسلوب، الذي قدّم به الجاحظ خصمهُ أحمد بن عبد الوهاب. ولكنك لست خصمي، فلأصطنع شيئاً من الجِدّ الذي يليق بهذا المجمع، ولأتحدّث عنك كما تعوّدتُ أن أتحدّث عمّن سبقك من الزُّملاء، إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً”. ومن الجدير بالذكر أن هناك أعضاء آخرون يعملون في لجان المجمع، التي يبلغ عددها أربعون لجنة، تضُمّ كبار المُتخصّصين في شتّى الفروع العلمية. وقد صادفت أعمال هذه اللجان الكثير من المواقف الطريفة، فمن ذلك الموضوع الذي وصل يوماً للجنة “ الألفاظ والأساليب”، من وزارة “المواصلات” المصرية بشكل رسمي؛ يستفتون المجمع في اسم الوزارة، بعد أن انفصلت عنها كل مرافق المواصلات، ولم تعّد مسؤولةً إلا عن المواصلات السلكية واللاسلكية فقط، وتسأل الوزارة عن الاسم الجديد الذي يُمكن أن يُعيّر عن عمل الوزارة الحالي بدقّة! ومن الطرائف التي يرويها الشيخ حمد الجاسر رحمه الله، أنه في إحدى دورات المجمع، اقترح أحد الأعضاء أن يٌعرّب جهاز “الفاكس” إلى “طِبقصَل”؛ اختصاراً لكلمتيّ “طبق الأصل”! فاعترض الشيخ وبعض الأعضاء على هذا التعريب المُتكلّف الذي سيُضحك الناس، ولم تتمّ بالطبع موافقة المعجم على هذا الاقتراح. وقد أقرّ المجمع في الستينيات ترجمته لكلمة “ساندويتش” بكلمة “شطيرة”، ولكن شاع بين الناس لسبب أو لآخر عبارة “شاطر ومشطور وبينهما طازج”، تهكّماً على المجمع وتندّراً على ترجمته لكلمة “ساندويتش”. وفي الختام، يقف أحد أعضاء المجمع مُدافعاً ليقول: بأن هناك فهماً خاطئاً لطبيعة عمل المجمع ورسالته، والبعض يعتقد بأنه هيئة مُتزمّتة، تضمّ عدداً من اللغويين المُسنّين، يفرضون من أنفسهم “كهَنة” العربية، ويُريدون العودة بالألفاظ العربية إلى “ضرغام” بدلاً من “أسد”، وإلى “مسرّة” بدلاً من هاتف”، وإلى “مِرناة” بدلاً من تلفاز”. والحقيقة غير ذلك تماماً، فالمجمع يضُمّ عدداً كبيراً من العُلماء المُتخصّصين في شتّى فروع العِلم والمعرفة، ويؤكّد أنه جهاز حضاري مُتقدّم، ومُواكبٌ لعصره إلى أبعد الحدود.