وحيد في المنزل

“وحيدٌ في المنزل” Home Alone اسمٌ لفيلم قديم عُرض لأول مرّة في عام 1990، تدور أحداثه حول طفل في الثامنة من عُمره، تتركه عائلته عن طريق الخطأ في المنزل وحده، ثم تُسافر لقضاء عُطلة عيد الميلاد بعيداً عن مدينتهم، وهو الأمر الذي يستغلّه لِصّان غبيّان، يُخطّطان للهجوم على الطفل وسِرقة المنزل. وبظهر ذكاء هذا الطفل ودهاءه غير المٌتوقّع، من طفلٍ في هذا السِنّ الصغير، ويبدأ في مُقاومة اللصوص، عن طريق تنفيذ العديد من الخُطط والمكائد لمنعهم من السرقة، لتمتزج الأحداث في إطار كوميدي وتشويقي. وقد حقّق الفيلم أرباحاً قياسية تُقارب النصف مليار دولار، وترشّحَ لجائزتيّ أوسكار وعدّة جوائز أخرى. ولكن بالرغم من نجاح الفيلم نجاحاً هائلاً، فنحن نُدرك أن الواقع لا يبدو بهذه الطرافة، عندما نُضطرّ لترك أبنائنا وحدهم في المنزل. فقد عرفتْ كثير من الأُسر في جميع أنحاء العالم ظاهرة جديدة بدت ملامحها مع خروج المرأة إلى العمل، ونقصد بهذه الظاهرة السماح لأطفال المدارس بحمل مفتاح المنزل، حتى يستطيعوا الدخول إليه والبقاء فيه لمُددٍ تتراوح بين ساعتين وأربع ساعات، إلى حين عودة أحد الوالدين من العمل. لقد كان مفتاح المنزل في الزمن القديم من المحظورات التي يجب إخفاؤها عن أعيُن الصغار، وحتى النُّسخة الاحتياطية منه كان الوالدان يجتهدان في إخفائها تحت وسادة في غرفة النوم، أو فوق رفّ بعيد في دورة المياه. ولكن مفتاح المنزل فقدَ مكانته في السنوات الأخيرة، وأصبح من المناظر المألوفة، في بلاد الغرب خاصّة، رؤية مفتاح المنزل مربوطاً بسلسلة معدنية ملفوفة حول رقبة أطفال المدارس، فيما بين السابعة من العُمر فما فوقها، وذلك زيادة في الحذر من فقدانه في الحقيبة، في زحمة الكُتب والأدوات المدرسية. ويُشار علميّاً إلى “طفل المفتاح” latchkey kid بأنه الطفل الذي يتراوح عُمره ما بين سبعة أعوام إلى ثلاثة عشر عاماً، يعود بشكلٍ روتيني إلى المنزل بمُفرده، ويستخدم مفتاحاً لقفل أو فتح باب منزله، ويرعى نفسه دون إشراف شخصٍ بالغ عليه. ويعود أول استخدام لمُصطلح “أطفال المفاتيح” إلى عام 1944، عندما كان على كثيرٍ من الأطفال في الولايات المتّحدة رعاية أنفسهم بعد الخروج من المدرسة، لأن آباءهم يُشاركون في المجهود الحربي أثناء الحرب العالمية الثانية، وخرجت الأُمّهات وقتها للعمل من أجل الحفاظ على استقرار الأُسرة ماليّاً. لقد التمس الكثيرون الأعذار للأُمّهات اللّائي تركنَ أبناءهُنّ بمُفردهم وقت الحرب، ولكن الأمر كان مُختلفاً مُنذ سبعينيّات وثمانينيّات القرن العشرين، حين ارتفعتْ مُعدّلات الطلاق، وزادت فُرص عمل النساء. ومع تغيّر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بدخول الألفية الثالثة، انخفض عدد “أطفال المفاتيح” بين العائلات المُقتدرة ماديّاً بسبب ترك أحد الوالدين العمل، والتفرّغ لرعاية الأطفال، أو الاعتماد على “جلّيسة أطفال” baby sitter المدفوعة الأجر، بينما بقي الوضع كما هو في الأُسر الفقيرة. وقد نشرت المجلّة الأمريكية “المرأة الجديدة” New Woman بحثاً ميدانياً مُستفيضاً عن هذه الظاهرة، رصدت فيه اعترافات بعض النماذج من أطفال المفاتيح، ومنها: “هيذر” طفلة في العاشرة من هؤلاء اللّائي تعمل أُمّهاتهنّ خارج المنزل، تقول: “إنني أعود إلى المنزل مُبكّرة عن والديّ بما يُقارب أربع ساعات، ولذلك فقد سمحتْ لي أُمّي أن أحمل مفتاح المنزل حول رقبتي منذ عامين تقريباً.. أحياناً أُحسّ بنوعٍ من الملل، لأن المنظر الذي أراه يوميّاً وأنا أُدير مفتاح الباب لا يتغيّر؛ لا أحد يستقبلني بترحاب، سوى كلبي الصغير الذي يهزّ ذيله طرباً عندما يراني.. بفُتورٍ أُلقي حقيبتي على منضدة صغيرة موجودة بالصالة، ثم أخلع ملابس المدرسة لأتّجه رأساً إلى المطبخ.. يا إلهي! حكاية كلّ يوم؛ حوضٌ مليءٌ بالأطباق التي عليّ أن أغسلها كلّها أولاً، ثم أقوم بإعداد الطعام لوالديّ المُتعبَين.. أقول لكُم الحقّ، أنا لا أُريد أن أُضيّع وقتي في اللّعب، ليس لأنني لا أُحبّ اللّعب، ولكنني أريد أن يشعر والداي بالسرور عندما يعودان من عملهما، فمنظر المنزل المُرتّب والأطباق المغسولة والطعام المُعدّ يُشعرهما بالفخر، وأنا أُحسّ به من نظرتهما إليّ”. إن بعض هؤلاء الأطفال مثل “هيذر”، وهُم عدد قليل جِدّاً، استطاع بتدريبٍ منذ الصغر على تحمّل المسؤولية والاعتماد على النفس، بل إن غياب الوالدين عن المنزل أعطاهم فُرصة جيّدة للتدريب على بعض مسؤوليات الأُسرة وأعبائها. ولكن أطفالاً آخرين مثل “بوبي”، يشعرون بالخوف، أو في أحسن الأحوال بالوِحدة والإهمال من جانب والديهم؛ فالطفل “بوبي” الذي يبلغ الثامنة من عُمره، وهو أيضاً يعود من المدرسة إلى منزلٍ خالٍ تماماً، ولكنه لا يُشارك “هيذر” في كلّ صفاتها، من حيث الاعتماد على النفس والتعاون مع الوالدين، وبصدقٍ شديد يصف مشاعره، فيقول: “إنني أُحسّ بالخوف الشديد عندما أعود إلى المنزل، حتى وصول أُمّي بعد ثلاث ساعات كاملة.. فأُلقي حقيبة المدرسة على مائدة المطبخ، ثم أذهب إلى الصالة لأُدير أزرار التلفزيون وأرتمي على مقعدٍ أمامه، ثم أُغيّر القنوات وأعود لإغلاق الجهاز.. أذهب إلى المطبخ لأُخرج كُتبي وكُرّاساتي من الحقيبة على المنضدة، كما لو كُنت استذكر دُروسي الفعل.. ثم لا ألبث أن أتسلّل إلى الصالة، حيث أظلّ هناك وأُذُناي مُنصتةٌ لمفتاح الباب، حتى يحضر أحد والديّ، فأجري إلى المطبخ وأتظاهر باستذكار دروسي”! المشكلة ليست مشكلة هذين الطفلين وحدهما، ولكنهما مشكلة كثير من الأطفال، الذين يظلّون بدون رعاية والديهم لفترات طويلة، ويشعرون بالخوف، أو في أحسن الأحوال بالوِحدة والإهمال من جانب والديهم. والمؤسف حقّاً أن كلّ هؤلاء الأطفال يُحاولون إخفاء مشاعرهم عن والديهم، مُتظاهرين بالشجاعة الكاذبة. تخلُص هذه الدراسة إلى أن كثيراً من الأطفال أيضاً يشعرون بحُنقٍ شديد تجاه هذا المفتاح الذي يلتفّ حول رِقابهم؛ فيلجأون إلى تصرّفات سيّئة خارج المنزل! مع شِلّةٍ من الأصدقاء، أو أنهم يقفون بلا هدفٍ على أرصفة الشوارع الرئيسة، وربما وقعوا فريسة لعوامل خارجية؛ منها تعرّضهم للانحرافات السلوكية، أو المُعاناة النفسية، ولسوء الحظّ أن هذه الحالات لا تتحسّن كثيراً بمرور الوقت.