
ليس من المستغرب أن تُلحق دولة قوية الضرر بنفسها.. نميل نحن العاملون في مجال السياسة الخارجية والأمن الدولي إلى التركيز بشكل أساسي على التهديدات الخارجية وما يمكن فعله للتقليل من مخاطرها أو ردعها أو التغلب عليها. ولكن لسبب غريب، كنت أفكر مؤخرًا في الضرر الهائل الذي تلحقه الدول بأنفسها أحيانًا عندما يتخذ قادتها قرارات خاطئة، ويكونون إما غير قادرين أو غير راغبين في تصحيحها قبل فوات الأوان. من الطبيعي أن تكون لدى الدول أسباب وجيهة للقلق بشأن الأعداء الخارجيين، فعدم أخذ المخاطر الخارجية على محمل الجد أو الفشل في التعامل معها بذكاء قد يؤدي إلى نتائج كارثية. وبينما يشكل التراخي أحد المخاطر، فإن المبالغة في رد الفعل عبر شن حروب غير ضرورية قد يترتب عليها خسائر فادحة، كما حدث مع ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية، والولايات المتحدة في العراق، وكما تفعل روسيا في أوكرانيا اليوم. لذا، ليس من المستغرب أن يكرس أشخاص مثلي قدرًا كبيرًا من الاهتمام لتقييم القضايا الدولية واقتراح طرق مختلفة للتعامل معها. ولكن، لا تقتصر الأسباب التي تؤدي إلى تدهور الدول على الأخطاء في السياسة الخارجية أو الأمن القومي، بل قد يكون سوء الإدارة الداخلية عاملًا أكثر خطورة. فقد أدت القيادة المتقلبة والاستبدادية لماو تسي تونغ إلى إبطاء النمو الاقتصادي للصين لنحو أربعة عقود، وتسببت حملات مثل “القفزة العظيمة للأمام” عام 1958 و”الثورة الثقافية” في الستينيات في مقتل الملايين، ما أدى إلى إضعاف الصين اقتصاديًا وسياسيًا. وبالمثل، كان لسياسات جوزيف ستالين في فرض الزراعة الجماعية أثر مدمر على الاتحاد السوفيتي، تمامًا كما كان لبرنامج “الأراضي البكر” الذي أطلقه نيكيتا خروتشوف في الخمسينيات تداعيات اقتصادية سلبية. وعلى الرغم من أن الأرجنتين كانت في مطلع القرن العشرين من بين أكثر الدول ازدهارًا، فإن عقودًا من الأزمات السياسية وسوء التخطيط الاقتصادي عرقلت تقدمها وأدخلتها في دوامة من الأزمات المتكررة. أما فنزويلا، التي كانت في وقت من الأوقات أغنى دولة في أميركا الجنوبية، فقد أدى سوء الإدارة الاقتصادية خلال عهدي هوغو تشافيز ونيكولاس مادورو إلى انهيار اقتصادها ونزوح الملايين من سكانها. في جميع هذه الحالات، لم يكن الأعداء الخارجيون هم السبب المباشر في هذه الكوارث، بل تعود المسؤولية بالدرجة الأولى إلى القيادات السياسية في تلك الدول. وبالمثل، فإنه من الصعب أن ندعي أن هناك عدواً أجنبياً قد أضر بالولايات المتحدة بقدر ما ألحقناه بأنفسنا من ضرر. فمن حيث القتلى والجرحى، لا تزال الحرب الأهلية الأمريكية الصراع الأكثر تكلفة في التاريخ الأمريكي. صحيح أن تنظيم القاعدة قتل ما يقرب من 3,000 شخص في 11 سبتمبر 2001 وألحق أضرارًا مادية بمليارات الدولارات، لكن الحرب العالمية على الإرهاب أودت بحياة عدد أكبر بكثير من الأمريكيين وكلفت أموالًا طائلة. ومنذ عام 1990، قُتل أكثر من مليون أمريكي بسبب العنف المسلح—وهي نسبة تفوق بكثير ما هو مسجل في أي دولة متقدمة أخرى—وكل ذلك نتيجة لقرارات سياسية داخلية. أما أزمة المواد الأفيونية، التي أودت بحياة ما لا يقل عن 500,000 شخص، فقد كانت إلى حد كبير نتيجة للجشع التجاري لشركات الأدوية، والخطر الحالي الناجم عن الفنتانيل يرجع إلى حد كبير بسبب التعامل مع المخدرات كمشكلة أمنية باعتبارها حربًا ضد تجار المخدرات الأجانب بدلًا من كونه أزمة صحية عامة. ولم يُجبر أحد الولايات المتحدة على دعم انضمام الصين المبكر إلى منظمة التجارة العالمية، أو على تحرير القطاع المالي بشكل مفرط لدرجة جعلت الانهيار أمرًا حتميًا، كما أن الأعداء الخارجيين ليسوا هم من يغذون جنون العملات المشفرة و”الميم كوين”(1)، الذي قد يؤدي إلى أزمة جديدة. هذا الوضع غير مستغرب. فالولايات المتحدة غنية وقوية وتتمتع بموقع جغرافي محصّن، مما يجعل الضرر الذي قد تلحقه بنفسها أكبر من أي ضرر يمكن أن يسببه لها أعداؤها. والسؤال هنا هو: ما الظروف التي تجعل القادة الأمريكيون يُلحقون الضرر ببلادهم؟ وكما أشرت سابقاً، فإن أحد أفضل الأدلة على هذه القضية هو كتاب جيمس سكوت الرائع “ الرؤية بمنظور الدولة: كيف أخفقت بعض المشاريع في تحسين الحالة الإنسانية” يستعرض الكتاب سلسلة من الحالات التي اتخذت فيها الدول خطوات سياسية كارثية بمحض إرادتها، معتقدة أن هذه السياسات ستؤدي إلى نتائج إيجابية وجذرية. يرى سكوت أن هذه الإخفاقات السياسية الكبرى ترجع إلى عاملين أساسيين. الأول هو السلطة المطلقة، حيث كان القادة في هذه الدول يتمتعون بحرية اتخاذ أي قرار دون أي قيود أو مؤسسات قادرة على كبح جماحهم وتصحيح مسارهم. والثاني هو الإيمان العميق بالأيديولوجيات الحداثية المتطرفة، وهي رؤى فكرية تدّعي أنها تستند إلى أسس عقلانية أو علمية. وتُعد الماركسية-اللينينية التي تبناها كلٌّ من ستالين وماو مثالًا بارزًا على هذه الأيدولوجيات، إذ زعمت أنها تقدم الحل النهائي لمشكلات المجتمع. وإذا جمعنا بين هذين العاملين، تظهر لنا قيادات متصلبة في رؤيتها، غير مكترثة بالتفاصيل أو بالظروف المحلية، وغير متقبلة لأي نقد أو معارضة. وفي ظل هذه الظروف، قد تتسبب الحكومات في أضرار كارثية، حتى دون وعي كامل بحجم تداعيات قراراتها. وهذا يعيدنا إلى الواقع الأمريكي الحالي. كيف يمكن أن تساعدنا تحليلات سكوت في فهم ما يحدث أمامنا الآن؟ للأسف، فإنها لا تحمل أي دلالات إيجابية. من الواضح الآن أن الرئيس دونالد ترامب يريد سلطة تنفيذية غير مقيدة، ولا يبدو أن مجلس النواب أو مجلس الشيوخ راغبين أو قادرين على مقاومة جهود الإدارة لاغتصاب السلطات التي يمنحها الدستور للكونغرس. إن الموافقة على تعيينات وزارية غير مؤهلة أمر مقلق، لكن الأسوأ هو عندما يتنازل الكونغرس عن سلطته في التحكم في الإنفاق الحكومي. ولكن، هل ستتصدى المحاكم لاغتصاب السلطة هذا؟ ربما، لكن الغالبية العظمى من قضاة المحكمة العليا يدعمون توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية، ومن غير المحتمل أن تقوم هذه المحكمة بالكثير لإيقافه. وماذا لو حاولوا؟ تخيلوا أن المحكمة أصدرت حكمًا ضد الإدارة في قضية هامة وطلب ترامب من المعينين من قبله تجاهل الحكم وتنفيذ أوامره. قد يرفض بعض المسؤولين الامتثال، لكن يمكن وضعهم في إجازة إدارية أو فصلهم تمامًا. إذا كان مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة العدل، والخدمة السرية، وضباط المارشالات، والجيش يطيعون القائد الأعلى، فما الذي سيقوم به جون روبرتس أو إيلينا كاغان أو أي من القضاة الآخرين لإجبار السلطة التنفيذية على التوقف؟ خصوصًا إذا كان المعينون يعلمون أن الرئيس سيمنحهم عفوًا إذا وقعوا في مشاكل قانونية لاحقًا. ثانيًا، الإدارة الحالية لا تقتنع بفكرة حدود المعرفة، أو العواقب غير المقصودة، أو تعقيد المجتمع الحديث، أو الحاجة لمراعاة الظروف المحلية (كما كان ينصح به سكوت)، بل هي تؤمن بأنها – مثل الشيوعيين والفاشيين والمتعصبين – تمتلك الحل الوحيد لكل المشاكل. هذه ليست “الحداثة العليا” (2) بالمعنى الذي استخدمه سكوت، فهي تمزج بين التطرف الديني في القومية المسيحية البيضاء (مثل بيتي هيغسيث) والمستقبلي (3) التكنولوجي الليبرالي من وادي السيليكون (مثل إيلون ماسك). الأول هو الذي يقود الهجوم على التنوع وبذل الجهود لإلغاء حقوق النساء والأقليات، بينما الثاني يقف خلف النهج المدمر تجاه مؤسسات الحكومة وسياساتها. كلا الجانبين مقتنعان تمامًا أنهم على صواب، سواء لأنهم يعتقدون أنهم ينفذون إرادة الله أو لأنهم يرون أنفسهم عباقرة، وسيمكنهم إتقانهم للتكنولوجيا من التحكم في المستقبل. وهم سعيدون ومطمئنون لوجود رئاسة قوية غير مقيدة لكونها أداة لتنفيذ مخططاتهم المثالية أو الأنانية (بتحقيق أهدافهم الشخصية). منذ بضعة أسابيع، توقعت أن ما نشهده هو “ذروة ترامب”، وأن موجة الأوامر التنفيذية والمقترحات الغريبة التي أصدرتها الإدارة ستتعثر في المحاكم وفي تعقيدات الواقع العملي الروتيني للإدارة الحكومية، وستتصادم مع الكونغرس. ومع ذلك، فقد بدأت أفقد الثقة في قدرة المؤسسات الأمريكية على مواجهة هذا التحدي. فالكونغرس اكتفى بتأييد قراراته، والمحاكم تتحرك ببطء، ووسائل الإعلام في حالة من الانقسام والحيرة، بينما الجامعات والجمعيات المهنية المؤثرة تتكتل في موقف دفاعي. وحتى الآن، يبدو أن النظام القائم على فصل السلطات والرقابة المتبادلة بينها الذي درسناه في مقرر الدراسات الاجتماعية في المدرسة الثانوية لا يعمل كما ينبغي. في الواقع، من المحتمل أن ينهار هذا المشروع بسبب الأحداث الحالية في العالم، مصحوبة بالمقاومة المدنية المنظمة وغير العنيفة. وقد لا يدوم زواج المصلحة بين القوميين المسيحيين البيض ورجال التكنولوجيا، وخاصة إذا بدأت الأمور في التفكك في الداخل واحتاج ترامب إلى كبش فداء يلقي عليه اللوم (وأنا هنا أعني إيلون ماسك) والأهم من ذلك، أن السياسات التي تتبعها الإدارة حاليًا ستؤدي إلى عواقب سلبية خطيرة على الملايين من الناس. فالولايات الحمراء التي تعتمد على الأموال الفيدرالية ستشعر بتلك العواقب عندما تبدأ هذه الأموال في التراجع، وسيخسر الناس وظائفهم، وتقلص المستشفيات من خدماتها، وستتأثر الخدمات الأساسية. وسيتأثر البحث العلمي بشكل كبير في وقت تحقق فيه الجامعات والمراكز البحثية الصينية تقدمًا ملحوظًا. والدول التي كانت في الماضي تدعم أمريكا ستبدأ في الابتعاد عنها، وتبحث عن أسواق جديدة وربما أصدقاء جدد. حتى وإن لم تُنفذ رسوم ترامب الجمركية بشكل كامل، فإن الشركات المحلية والدولية ستصبح حذرة من تقلباته وستسعى لتقليل تعرضها للمخاطر. وإذا أردت أن تعرف مصير الطريق المرعب الذي قد نتجه إليه، يمكنك الاطلاع على مقال دارون أوغلو، الحائز على جائزة نوبل، في صحيفة الفاينانشال تايمز (4). وكما حذر سكوت وبعض العلماء البارزين الآخرين، فإن الخطر الكامن في السلطة غير المقيدة هو أن الحكام المستبدين قد لا يدركون فشل سياساتهم (لأن المرؤوسين والأتباع لا يخبرونهم بذلك)، ولا يوجد أحد في وضع يسمح له بمنعهم أو حتى تنبيههم. على سبيل المثال، لم يكن أحد قادرًا على إيقاف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تنفيذ سياسات اقتصادية غير تقليدية أدت إلى أضرار كبيرة للاقتصاد التركي، حتى أن الارتفاع الكبير في التضخم ورد فعل الأسواق العالمية كانا العاملين الرئيسيين اللذين أجبروه على تغيير نهجه. وهذا يعيدني إلى الموقف الصعب حيث أجد نفسي أتمنى أن تتدهور الأمور في وقت أقرب، قبل أن يصبح الضرر الذي لحق بالديمقراطية الأمريكية، والاقتصاد الأمريكي، والمؤسسات المنتجة للمعرفة التي ساعدت في نجاحها السابق لا يمكن إصلاحه. هوامش (1) عملات الميم هي نوع من العملات الرقمية المشفرة التي تستمد قيمتها وشعبيتها من النكات المنتشرة على الإنترنت، وهي في الأساس عملات رقمية ترفيهية، وغالبًا ما يتم إنشاؤها على سبيل المزاح أو السخرية من أشهر عملات الميم: دوجكوين (Dogecoin) وشيبا إينو (Shiba Inu). (المترجم) (2) شكل من أشكال الحداثة، تتميز بثقة راسخة في العلم والتكنولوجيا كوسيلة لإعادة تنظيم العالم الاجتماعي والطبيعي. للمزيد راجع كتاب James C. Scott, Seeing Like a State: How Certain Schemes to Improve the Human Condition Have Failed (New Haven, CT: Yale University Press, 1999), p. 4. (المترجم). (3) في المقالة استخدم الكاتب مصطلح “futurism” ويقصد فيه “المستقبلية” وهي حركة فنية وثقافية واجتماعية نشأت في أوائل القرن العشرين في إيطاليا. تركز على التطلع إلى المستقبل، والتعبير عن الحداثة، والتكنولوجيا، والسرعة، والديناميكية. للمزيد راجع https://www.theartstory.org/movement/futurism/ (المترجم). (4) يمكن الاطلاع على المقالة بعنوان “ The real threat to American prosperity” https://www.ft.com/content/4e3f1731-3d63-4b31-88ce-c3f5157d8170 (المترجم ). * كاتب عمود في مجلة السياسة الخارجية وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد. 12 فبراير 2025