نجوم في سماء التلاوة.

في فجر الإسلام، وفي الوقت الذي فكّر فيه المسلمون في تعليق جرسٍ كبيرٍ على باب المسجد لدعوة الناس إلى الصلاة، ثم لم يفعلوا، لأن ذلك من خصائص النصارى؛ رأى أحد الصحابة رضي الله عنهم، وهو عبدالله بن زيد في منامه رجُلاً يُعلّمه الأذان، فلما أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما رأى، قال له الرسول: “إنها لرؤيا حقّ إن شاء الله، فقُم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فليؤذّن به، فإنه أندى صوتاً منك”. ومنذ ذلك الوقت، دخل تاريخ الإسلام مئاتٌ من المؤذّنين والمُقرئين، أصحاب الأصوات النديّة التي أوصلت صوت الحقّ إلى مُختلف أركان الأرض. وفي هذا العصر اشتهر الكثير من القُرّاء الذين يتلون كتاب الله عزّ وجلّ عبر وسائل الإعلام، بأصواتٍ عذبة تشدّ الأسماع للإنصات والخشوع لآيات الذّكر الحكيم. وقد سُئل الشيخ “محمد متولي الشعراوي” في قراءتهم، فقال: “إن هذه الكتيبة من القُرّاء لم يكونوا مُكرَّرين، لا أداءً ولا صوتاً ولا لحناً، بل كان لكّل منهم أسلوب فريد يخدم النَّص.. فإذا أردت أحكام التلاوة فعليك بالشيخ محمود خليل الحُصري، وإذا أردت الصوت الجميل فعليك بالشيخ عبدالباسط عبد الصمد، وإذا أردت فنّ التلاوة الرفيع فعليك بالشيخ مصطفى إسماعيل، وإذا أردتهم جميعاً فعليك بالشيخ محمد رفعت”. وبدأت شُهرة المُقرئين على يد الشيخ “أحمد ندا”، الذي كان يقرأ القرآن الكريم بصوت جميل وبطريقة مُبتكرة، تحمل السامعين على الجلوس في أماكنهم لساعاتٍ طويلة. لقد تفوّق الشيخ “ ندا” على جميع أقرانه في ذلك الوقت في بداية القرن العشرين، لقُدرته على الجمع بين أحكام التلاوة والصوت الفريد، ويٌعتبر هو المؤسّس لما يٌعرف “بدولة التلاوة” في مصر. قال عنه الأديب عبدالعزيز البشري: “إن صوته كان سيّد الأصوات وأقواها، وإنه ليكون في أعلى طبقات الصوت، فإذا به يحوم حول طبقة أعلى، يلتمس إليها الوسائل وينصِب لها الشِباك والحبائل، حتى يتمكّن منها ويُرسل بها إلى عنان السماء”. وبالرغم من شُهرته التي تمتّع بها، إلا أنه لم يترك إلا تسجيلاً واحداً لسورة “الأنبياء”، إذ يُروى عنه رحمه الله أنه كان يُعارض تسجيل القُرآن الكريم بشِدّة على أسطواناتٍ، قائلاً: “لا يليق أن يُحمل كلام الله عزّ وجلّ في اسطواناتٍ تتداولها الناس، وربّما تُلقى أحياناً على الأرض”. أما الشيخ “محمد رفعت” فيُعتبر من أبرز قُرّاء القرآن الكريم بالوطن العربي، وأحد أعلام هذا المجال المتميّزين، فقد حباه الله حُنجرة ذهبية قويّة، كانت من أسباب إسناد افتتاح بثّ الإذاعة المصرية له سنة 1934 وذلك بعد أن استفتى رحمه الله شيخ الأزهر “مصطفى المراغي” عن جواز إذاعة القرآن الكريم، فأفتى له بجواز ذلك، فافتتح البثّ بقراءة أولى آيات سورة “الفتح”: “إنّا فتحنا لك فتحاً مُبيناً”. لقد امتلك الشيخ محمد رفعت القُدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فكان يعلم متى يُبهجهم ومتى يٌبكيهم، من خلال آيات الترغيب والترهيب في كتاب الله عزّ وجلّ، وقد كان صوته قويّاً، لدرجة أنه يستطيع من خلاله الوصول لأسماع أكثر من ثلاثة آلاف شخص في الأماكن المفتوحة، بدون استخدام مُكبّر الصوت. ولم يتحقّق لقاريءٍ شُهرة عالمية كمثل ما حقّق الشيخ “عبدالباسط عبد الصمد”، الذي دوّى صوته في أرجاء الدنيا، وزار أكثر الدول العربية والإسلامية، ورتّل القرآن في المراكز الإسلامية والمساجد الكبرى في العالم. ابتدأت شُهرته حين التحق بالإذاعة عام 1951، وقد كان التحاقه بالإذاعة سبباً للإقبال الكبير على شراء أجهزة الراديو، من أجل الاستماع إلى تلاوته. لقد امتلك الشيخ صوتاً جميلاً قوياً، وكلن صاحب النّفَس الأطول بين القُرّاء، وقد كانت هذه الميزة سبباً رئيساً لانتشاره. وفي منتصف السبعينيات وخلال عقد الثمانينيات، انتشر تسجيل قِصار السوَر للشيخ عبد الباسط انتشاراً لم يعهده تسجيلٌ من قبله، فكانت المحلّات التجارية وسائقو سيارات الأجرة يبدأون يومهم بهذا التسجيل. أما الشيخ “محمد صدّيق المنشاوي” فيُعدّ من أبرز القُرّاء الذين جمعوا في تلاوتهم بين الالتزام بأُصول التلاوة الشرعية وبين القُدرة على الإبداع في التلاوة، ويُعتبر مُصحفهُ المُرتّل أشهر مصحف في عالم التلاوة. لقد كان المنشاوي، بالرغم من عُمره القصير، 49 عاماً، أول من كانت الإذاعة تنتقل إليه لتُسجّل صوته، بدلاً من أن يذهب هو طالباً للتسجيل، حيث اعتُمد في الإذاعة في الخمسينيات، وسُجّل له ما يزيد على مائة وخمسين تسجيلاً مُفعماً بالمعاني والأحاسيس القُرآنية الرائعة. ولعل الشيخ “مصطفى إسماعيل” هو القاريء الوحيد الذي قلّده كثيرٌ من القُرّاء الذين جاءوا بعده، والسبب أنه الوحيد الذي يؤدّي التلاوة بأسلوب السهل الممتنع. وكان الملك فاروق قد أصدر مرسوماً بتعيينه “قارئاً للقصر الملكي”، وكان الرئيس “السادات” من المُعجبين بصوته، واختاره ضمن الوفد الرسمي أثناء زيارته للقدس. وختاماً، فقد ألّف الكاتب “محمود السعدني” في سنة 1959، وهو مُقيم في سجن “القلعة”، كتاباً بعنوان “لحن السماء”، قلّد فيه مُبدعي تلاوة القرآن الكريم ألقاباً مُعبّرة؛ فالشيخ أحمد ندا هو “العبقري الأول”، والشيخ محمد رفعت “صوت الشعب”، والشيخ عبدالباسط هو “صاحب الحنجرة الذهبية”، والشيخ مصطفى إسماعيل هو “قاريء المُلوك والرؤساء”. ويقول السعدني، مُعلّقاً على نُدرة المواهب في التلاوة، وكثرة المُقلّدين لتلك الكوكبة: “أنه عندما يغيب العباقرة والموهوبون، يحتلّ المُقلّدون الصدارة، ولكن ما أبعد الفرق بين الأصل والصورة، والسبب أن التقليد لا يترك بصمةً ولا أثراً، ولذا يجب الاهتمام بمدارس تحفيظ القُرآن الكريم، فهي المنبع الذي يُمدّنا بالقُرّاء المُبدعين، لأن هذه المدارس هي التي حلّت محلّ الكتاتيب القديمة، والتي كان لها أعظم الفضل في الحفاظ على استمرار هذه المواهب المُتميّزة في تلاوة القُرآن الكريم”.