
حين تكتب تهاني الصبيح، فهي لا تكتفي بصياغة أبيات شعرية أو سطور روائية، بل تنسج عوالم من المعاني تتجاوز اللغة إلى عمق التجربة الإنسانية. بصوتٍ شعريٍ متفرّد، وخبرة تمتد لأكثر من ربع قرن في التعليم والأدب والثقافة، وهي شاعرة لها حضور لافت ومشاركات في المهرجانات والفاعليات الأدبية في المشهد الثقافي، داخل المملكة العربية السعودية وخارجها. صدر لها ديوانا شعر: «فسائل» ، و «وجه هاجر، كما دخلت إلى عوالم الرواية عبر: «وجوه بلا هويّة». حازت على عدة جوائز مرموقة في مسيرتها الأدبية والأكاديمية، ودونت سيرتها و أعمالها في معجم أعلام النساء في المملكة العربية السعودية للكاتبة اللبنانية غريد الشيخ محمد ، كما تم التعريف بسيرتها الذاتية ضمن مجموعة من الأديبات السعوديات في كتاب ( ومضات سيريّة ) للأستاذة الدكتورة نوال السويلم 2022. تظل القصيدة بالنسبة للصبيح أبعد من الإنجاز الشخصي، فهي بحث مستمر عن الجمال، وعن ذلك الصدق الخفي الذي يمنح النص روحه. في هذا الحوار، نقترب من رؤاها، ونسألها عن الشعر والكتابة والحياة. •متى أدركتِ أن الشعر سيشكل منعطفا مصيريًا في حياتك؟ وكيف أثر هذا القرار على توجيه حياتك العلمية و العملية؟ في المرحلة الثانوية بدأ كاهن الشعر يخلو بي في تجلّياته ويقودني إلى أكثر منطقة آمنة في حياتي ، هاجسٌ شدّني إلى تخصصي الأكاديمي في اللغة العربية رغم ولعي باللغة الإنجليزية وبراعتي في التحدث بها آنذاك ، فوجدتُ نفسي غارقةً في موسيقا الوزن ودلالات الألفاظ وسعة المعاجم ، وتخرّجتُ من الجامعة بثلاث قصائد ووظيفة معلمة لغة عربية في محافظة حوطة بني تميم والحريق . •هل أنت مع أن الكتابة تجربة ذاتية خالصة، أم تؤيدين أنها انعكاس أيضا للواقع المحيط؟ وكيف توازنين بين هذين الاتجاهين؟ الكتابة بتعبيري البسيط هي ينابيع نقيّة في أعماقنا يرفدها نهر الوجدان وتنبت على ضفافها آلاف القصائد فمرةً يعبر الكاتب عن ذاته حينما يسافر فيها ويغرق في مكنوناتها ويشفّ من خلالها حقيقته و إنسانيته ، ومرةً ينشطر داخلياً ليتوزع في قلوب من حوله ويعكس صورهم أو يصبح حيّزاً لصدى أصواتهم وترجمة ملامحهم أمام العابرين في محطات الحياة بأبيات شعر من الحب والحكمة والغزل والمدح . وأنا أعتقد أن المزج بين الذات والآخر هو حالة من التماهي الذي تتناسل فيه روح الشاعر بمعانٍ وأفكار جديدة قادرة على صناعة الدهشة في حياتنا.. •لفت نظري تقديمك للرواية على الدواوين الشعرية في سيرتك الذاتية، فهل هو ترتيب زمني، أم أن في الرواية متسع أكبر؟ الرواية فن قائم على صناعة الأحداث وتسلسل أفكارها والبراعة في إخراج مشاهدها ولا يحتاج الروائي كثيراً إلى التوغل في دهاليز اللغة كما يفعل الشاعر حين يستدعي عشرات المفردات ويقارن بينها لاختيار الأجمل في سياق بيت شعري يجب أن يكون مرصوفاً بعناية ، مختوماً بدقة .. لا أخفيك بأنني نادمة حتى اللحظة بسبب استعجالي في الوصول إلى قلوب الناس عن طريق الرواية بينما كانت كِنانتي اللغوية مكتظة بآلاف الكلمات التي لو تمّ رميها بثبات لأصابت قصائد رشيقة في شِباك الشعر .. وتظلّ روايتي “ وجوه بلا هوية “ بمثابة اللثام الذي دخلتُ به عالم النشر دون أن تتضح فيه ملامحي الحقيقية كشاعرة تنتمي إلى الشعر فقط . •بعد خبرة طويلة في التعليم، كيف تقيّمين حضور الأدب والشعر في المناهج الدراسية؟ وهل هناك مساحة كافية لتحفيز الإبداع الأدبي لدى الطلاب؟ يختلف حضور الأدب في المناهج الدراسية الحديثة عن حضوره في المناهج القديمة التي نقلتنا إلى عصور أدبية متعددة لدراسة كل الأجناس دراسة مستفيضة ، ففي الوقت الحالي أتفق مع توجه المناهج في التركيز على الكيف دون الكمّ مع وجود نصوص جاذبة راقت لي من حيث المفردة والصورة وخفّة الإيقاع الصوتي بالإنشاد والترنيم ، أما الإبداع الأدبي فقد وجدته جليّاً من خلال تدريسي لطلّابي في مرحلة الصفوف المبكرة في ابتدائية الإمام الشاطبي لتحفيظ القرآن الكريم بالأحساء حيث الحافظة القوية والتمكن من اللغة والنطق الفصيح وبراعة الإلقاء والقدرة الهائلة على حفظ عدد كبير من الأبيات لنصوص ربما تكون مفرداتها أكبر بكثير من خيال الطفل واستيعابه الفكري ولكنها الموهبة التي وجدتُ نفسي مسؤولة عن صقلها وملزمةً برعايتها وتنميتها وإبرازها على كافة المنابر والمحافل المحلية بفخر وذلك لإيماني الشديد بأن المدرسة وحدها قد تكون فتيلاً لإشعال روح الطالب الموهوب واتساع إشراقه على العالم كله .. •كيف تقيمين دور الأدب في التفاعل مع التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها المملكة في السنوات الأخيرة؟ لا يزال الشعر ديوان العرب عامة و المرصد الضوئي الذي يراقب كل حركة أو ثبات أو تغيير في السعودية خاصة ، لأن السعودية سيدة الشعر وحاضنة الشعراء ومهد الحضارة الأدبية وقد حظيت الكثير من مناطقها بأوصاف وإشارات كبار الشعراء باختلاف العصور ، وأمام النهضة العلمية والفكرية والأدبية التي قفزت بها المملكة إلى العالم في ظل القيادة الرشيدة برز للشعر دور إعلامي عالمي تمثل في العديد من المشاركات الدولية لشعراء كانوا يصوّرون ما يحدث من تطور ويرصدون صور الإبداع الفني والمعماري في المناطق والمدن ودور الدولة الرائد في عمارتها ونمائها ويوثقونه تاريخياً في قالب كتابي بديع جذب أنظار العالم بعد أن سكن ذاكرتهم ، وهنا تكمن براعة هذا الوطن في إبراز شعرائه المؤثرين والتباهي بمنجزهم كل حين. •من خلال عضويتك لعدة سنوات في نادي الأحساء الأدبي، كيف تقيمين تجربة العمل الثقافي المؤسسي؟ بالنسبة لي كانت تجربة العمل الثقافي المؤسسي في نادي الأحساء الأدبي تجربة هامة تعلمتُ منها الكثير وساهمتُ في النهوض بالحركة الأدبية من خلال رئاستي لبرنامج الأديبات الواعدات الذي استمر على مدار ثمان سنوات من عضويتي هناك ، لكنها تجربة مع شديد الأسف شكّلت حاجزاً أسمنتياً صلباً بيني وبين القصيدة التي أحبها والتي وجدتُ نفسي عاجزةً عن تلبية نداءاتها المتكررة ، واستغاثاتها المتتالية واشتغالها بحواسي وأفكاري ، تلك الحواسّ المتمردة التي لا تغريها الضحالة.. ولا يمكن أن تسيل على الأوراق إلا بعد انصهارٍ وتكثيف ، وهذا الجفاء قلّل من عنايتي بالشعر وباعد بيني وبين روح القصيدة لمسافات طالت وقصُرت فتعثّرتُ قليلاً في تطوير تجربتي الشعرية كما أرى .. •هل تشكل الجوائز والتكريمات التي حصلتِ عليها ضغطًا لتقديم أعمال بنفس المستوى، أم حافز للاستمرار ؟ بالنسبة لي لم تقيّدني أي جائزة ولم تلبسني فستاناً من الضوء ، ففساتيني مطرّزةٌ بالسّجع والضدّ والتجنيس طالما أسكن روح المجاز وأنطق بما تخبئه الكنايات وما الجائزة إلا محطة عابرة من محطات علاقتي بالشعر تقوّي إيماني به في ابتكار الدهشة واحتراف التأثير لكنها لا تقيّدني بمستوى فنّي معين ، فأنا في تحليق دائم على هيئة ( سِرب قصائد ) وأنّى وجّهتني القريحة سأتجه دون حدود أو زوايا أو جدران أو مبانٍ أو شخوص ، سأكتبُ في الجمال على سفح جبل أو على جناح فراشة أو في جريان نهر أو انعتاق غيمة . •“المعتزلات الأدبية”، حدثينا عن تجربتك فيها، وهل ترين أنها يجب ان ترتبط بمنجز أدبي كنتيجة افتراضية لها؟ معتزلات الكتابة في المملكة العربية السعودية التي تنظمها هيئة الأدب والنشر والترجمة بدعم من وزارة الثقافة هي فكرة رائدة تجعل الشاعر يفرّ من ضجيج الحياة إلى سكون المكان وحضور الطبيعة في الوجدان وانعتاق القريحة بجناحين أبيضين من غيمٍ وأمان ، فالعزلة ولّادة للإبداع لأن فيها يجتمع الشعراء ويتقاسمون كسرة الشعر على مائدة دسمة من الحوار والنقد .. وكم كنتُ بحاجة حينها للرحيل إلى مدينة العُلا “ شمال السعودية “ والبحث عن هدوء داخلي لأعيش عزلتي مع النصّ وحده دون أي حدث قد يقلقني صوته أو يعيق خطوي أثره وهناك أقمت في معتزلٍ استدارت حوله جبالٌ ينحت الشعر فيها ملامحه بهيئة تماثيل صخرية ذهبية تحرس المكان وترهب أعداءه ، فأدركتُ وقتها قيمة الوتد المغروس في داخلي لأهدأ بعد ارتباك وأغفو بعد قلق ، وتنفستُ هواءً نقياً أنعشَ رئتي ثمّ انعتقتُ بنصٍّ وجداني ما زلت أراهن الطبيعة على جماله .. •هل أنت مع استدعاء الإلهام أم انتظاره أنا مع انتظار الشعر ، مع كل نايٍ يعزفني إيقاعه فيتنزّل عليّ الإلهام مثقلاً بالمفردات مسكوناً بالأفكار وينطق بي كلاماً يشبه السحر المتدفق على ألسنة الملهمين أنا مع عرّافي الأثر الذين لا يؤمنون بالمسافات ويستفتون حدسهم الداخلي للتعرف على الموجودات أنا مع التجلّي لأنني ابنة الرمل والنخل والماء ، إذا لم تستجب لي الأرض أتسرب في مسامات السماء حتى أنتهي بالهطول .. “ فيسيلُ ما سكنَ الصدورَ وما برَى “ •لأيهما يكترث قلمك، رأي النقاد أم تفاعل القراء؟ أنا مؤمنة بالجمهور وأعوّل كثيراً على ذائقته فهؤلاء هم قُضاتي الحقيقيين في محكمة الذائقة لأنهم لا يؤمنون بالمحاباة ولا يخذلون اللغة ولا يغدرون بالقصيدة ولا يساومون عليها ولا يتقنّعون لإخفاء ملامحهم الحقيقية ، ليسوا “ غاووين “ بل “ منصفين “ لأنهم وحدهم من يصفّقون من أجل بقاء المعنى الجميل حياً يسري بهم من دهاليز الحياة المعتمة إلى سعة الجمال المطلق .. •شاركتِ في ملتقيات ومهرجانات خارج المملكة، كيف وجدت التلقي للقصيدة الفصحى؟ وما أكثر ما لفت انتباهك؟ معظم الملتقيات والمهرجانات التي شاركتُ فيها كانت في دول عربية وحّدتني بجمهورها اللغة ومثّلتني أمامهم صناعة الدهشة والثقة بالقصيدة والبراعة في إخراجها أمامهم فكرةً وإلقاءً ومما لفت انتباهي هو كثرة الجماهير العاشقة للشعر في حضور كثيف واحتشاد لافت للاستماع إلى القصيدة دون النظر إلى المسافة أو الوقت ومما كان يثير سعادتي أنني في هذه اللحظة بالذات أنسلخ من اسمي لأصبح مجرد بطاقة هوية باسم المملكة العربية السعودية خصوصاً حينما ألقي قصائدي التي تستدعي رموز وأحداث تاريخية بارزة أفخر من خلالها بانتمائي لهذا الوطن .. •كيف تختارين عناوين أعمالك؟ وهل تجدين صعوبة في اختزال روح العمل الأدبي في عنوان واحد؟ حقيقة أنا أميل كثيراً إلى التأمل في الوجوه والسفر عبر خطوط الأيدي لذا كتبت رواية عنوانها “ وجوه بلا هوية “ وديواناً عنوانه “ وجه هاجر “ وأفكر كثيراً أن يكون عنوان ديواني الأخير الذي أحيا هاجس طباعته حالياً بعيداً عن حكايات الأوجه والأيدي وقريباً من مغارات الضوء ، وأتفق معك أنه من الصعب كثيراً البحث عن مفردات ساحرة وقادرة على اختزال روح العمل الأدبي في عنوان واحد •قصيدة النثر، هل خضت هذه التجربة الكتابية؟ للأسف لم أخضها ولا يمكنني المحاولة لأنني مؤمنة بالإيقاع الخارجي للنص قبل الإيقاع الداخلي فيه ومؤمنة بالوضوح في عرض الفكرة بعيداً عن التكثيف العالي أوالرمزية المفرطة كما أنني أميل كثيراً إلى عمودية الشعر في قالب حداثي مدهش ، أميلُ إلى أن أتقاسم القصيدة مع المتلقي الذي يراني معلّقةً بحنجرته أجمع شظاياه وأعبّر عما لا يستطيع التعبير عنه لأصبح مرآة تعكس وجعه أو فرحه أو خوفه .. أقول رأيي هذا مع تقديري الشديد للأصدقاء والصديقات المحترفين في صناعة قصيدة النثر بتجليات لافتة ولغة عالية •كنت أحد نجوم مسابقة “ المعلقة”، التي ترعاها هيئة الأدب والنشر والترجمة، مؤخرا، فكيف تصفين تجربتك فيها؟ مشاركتي في مسابقة المعلقة كانت فرصة ذهبية وتجربة ثرية استطعت من خلالها الخروج بنصّ حصد مئات الآلاف من المشاهدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهذه النتيجة هي أشبه بقطاف يانع وحصاد وفير وفّى لي الكيل ، و أشعرني بالرضا حتى وإن لم يحالفني الحظ للتأهل . •في رأيك، ما الذي يفتقده المشهد الأدبي السعودي اليوم؟ وكيف يمكن للشعراء أن يسهموا في سد هذه الفجوة؟ المشهد الأدبي السعودي مساحة تتسع لملايين المبدعين داخل هذا الوطن وخارجه لأنه مشهد تتعاضد فيه كل السواعد الناهضة بفكرنا وأدبنا من أجل طيب الغرس واستمرار النماء وجودة الحصاد ومن هذا المنبر الشاهق أعلن أنني أثق بشدة بأن من لديهم الصلاحيات في إدارة هذا المشهد مستمرون في غربلة المكلّفين بعضويته من أي تأثير عاطفي أو شخصي ليكونوا منصفين في تحكيم نصّ أو إصدار حكم أدبي أو تقديم دعوة لأديب أو تقدير شاعر يتجنبون خذلان اللغة فيه أو ترويع القصيدة بإقصائه، علماً بأنني من الشاعرات السعوديات اللاتي حظين بدعم وزارة الثقافة السعودية منذ عام ١٤٣٠ هـ حتى الآن للظهور كصوت نسائي شعري في الكثير من المناسبات التي آمنت بحضوري و التي ستظلّ عالقة في ذاكرة تاريخ الأدب ومكتوبة بماء الذهب ..