
تتجلَّى عبقرية “السينما الفلسطينية” في أنها تنتقِل من نجاح إلى نجاح، وأنها في كل عملٍ تُنجزِه تَكسب أرضاً جديدة، وأنها بالرغم من ضعف إمكاناتها المادية إلاَّ أنها تسير في خط تصاعدي ودون توقُّف ... ولنضرِب مثلاً بالفيلم الوثائقي (لا أرض أخــرى No Other Land) والذي بمجرد الإعلان عن فوزه بجائزة الأوسكار في دورتها السابعة والتسعين لنيل جائزة أفضل فيلم وثائقي -في حفل توزيع الجوائز في 2 مارس 2025م- استشاط وزيرُ الثقافة الإسرائيلي “ميكي زوهار” غيظاً، وخرج من قاعة المشاهَدة مُترنّحـاً، وعلَّقَ على فوز الفيلم في تغريدة على منصة “X” قائلاً: “إنَّ فوز فيلم (لا أرض أخرى) بجائزة أوسكار يُعدُّ لحظةً حزينةً لعالَم السينما، وبدلاً من عرض التعقيد في واقعنا، اختار مُخرجو الأفلام ترديد الروايات التي تُشوّه صورةَ إسرائيل في العالم”. وأضاف “زوهار” أنَّ “تشويه إسرائيل دولياً لا يُعدّ إبداعًا، ولكنه تخريب لدولة إسرائيل، وفي ظِل الحرب الدائرة حاليا، يضاعِف ذلك من الأضرار”! إنَّ هذا الفيلم الفريد في رسالته، والمتفرّد في مفاعيله، هو فيلم وثائقي من إخراج الرباعي (باسل عدرا، وحمدان بلال، ويوفال إبراهيم، وراحيل تسور) وهم ناشطون فلسطينيون وإسرائيليون داعمون للقضية الفلسطينية. ويأتي في محاولةٍ منهم للبحث عن العدالة أثناء ما تعانيه فلسطين من اعتداءات ويتحدث في مدة 95 دقيقة عن ممارسات التهجير التي يعاني منها المواطنون الفلسطينيون في الضفة الغربية من الاحتلال الإسرائيلي، إذْ يُسجّل الاعتداءات التي تعرضت لها منطقة “مسافر يطا” منذ عام 2019 وحتى عام 2023م. إنَّ هذا “الفيلم” الذي ولد مِن تناقضٍ عجيب، تعاون بين فلسطينيين وإسرائيليين، يحاول أن ينسج من التناقض ذاته مرآةً تعكس مأساة شعبٍ يناضل من أجل حقه في البقاء. هذا “الفيلم” كشف أنَّ “إسرائيل” وهمٌ كبير، وخداع طويل، فليس لديها شيء سوى تهمة “معاداة السامية” الجاهزة للتصدير .. إنها السلعة الأكثر تداولاً في السياسة الإسرائيلية، تستخدمها ضد الصحفي، والأكاديمي، وحتى ضد الإسرائيلي نفسه! هذا “الفيلم” كشف عن تصدُّع الرواية الإسرائيلية، وعصف بالطمأنينة المصطنعة، وكسر التناغم الذي حاولت إسرائيل فرضه على الرأي العالمي ... وهي الهزيمة الكبرى التي يخشاها العدو هي في ميدان الرواية ! هذا “الفيلم” منح الفلسطينيين سلاحاً فتاكا، هو (الكاميــرا) التي أوصلَت “السينما الفلسطينية” إلى الأوسكار لأول مرة في التاريخ ... إنها أشبه بصاروخ قسَّامي صُنِع في غزة، لا يعترف بالحدود التي رسمها المحتل! ليست الصدمة في الفيلم بحد ذاته، فالصورة انطلقت على الشاشة، وحصدت تصفيق العالَم، بينما بقيت “إسرائيل” وحدها تتملْمل أمام مشهد لم يَعد قابلاً للحذف: الكاميرا لم تَعُـد بيد إسرائيل!! أحداث الفيلم المثيرة يناضل مُخرجُ الفيلم “باسل العدرا” منذ طفولته ضد التهجير القسري الذي يمارسه الاحتلالُ العسكري الإسرائيلي لأهله في منطقة “مسافر يطا” وهي منطقة تضم 19 قرية فلسطينية تقع داخل حدود بلدية يطا في الضفة الغربية. حيث أعلنت إسرائيل أنَّ “المنطقة” للتدريبات العسكرية الخاصة بها، فحرمت بذلك العائلات الفلسطينية من حقهم في العيش على أرضهم التي وُلِدوا فيها، تاركيهم بلا أيّ أرضٍ أخرى ليعيشوا عليها. ويُسجِّل بطليْ الفيلم (باسل عدرا والناشط الإسرائيلي يوفال إبراهيم) بالكاميرا وبهاتف باسل التدمير المتواصل لمنطقة “مسافر يطا” حيث يدمّر الجيشُ الإسرائيلي المنازلَ ويُخلِيها من سكانها، ويَقطع أنابيب المياه، ويَسلب مولدات الكهرباء، ويُسوّي المدرسةَ التي بناها الأهالي بالأرض، ويُسجّل هروب المدنيين أثناء الاعتداء عليهم، والجرافات المدمرة للمكان، والجنود الذين يعتدون على المُصوّرين، وهروب المصوّرين بعدها، مع أصوات الصراخ والتدافع بين الأهالي المعتدى عليهم والمعتدين، ويُوثّق عنفَ وبطشَ المستوطنين على الأهالي وترويعهم، كما يُصوِّر محاولات الأهالي في إعادة بناء منازلهم ليلاً. “السينما” تنقِل معاناة الفلسطينيين لقد عمِل الثنائي: الناشط الفلسطيني “باسل عدرا”، بمعاونة الصحفي الإسرائيلي “يوفال أبراهام”، لمدة 5 سنوات على إنتاج الفيلم؛ لفضح سياسة الاحتلال العدوانية، حيث يُظهِر الفيلمُ جنودَ الاحتلال وهم يَهدمون المنازل ويَطردون السكان الفلسطينيين لصالح مستوطنين صهاينة! ويقارن هذا “الفيلم” بين التسهيلات التي يحصل عليها المستوطِن مقابل التضييق على الفلسطينيين. فعلى سبيل المثال: “أبراهام” لديه لوحة أرقام إسرائيلية صفراء تَسمح له بالسفر إلى أيّ مكان، أمَّا “عدرا” الفلسطيني فهو محاصَر بشكلٍ مستمر. وقال عدرا: “الفيلم يعكس الواقع القاسي الذي نعاني منه منذ عقود وما زلنا نقاومه، وندعو العالَم إلى اتخاذ إجراءات جدّية لوقف الظلم ووقف التطهير العرقي للشعب الفلسطيني”. وقال “أبراهام”: “صنعنا هذا الفيلم، ونحن فلسطينيون وإسرائيليون، لأنَّ أصواتنا معًا أقوى، فنحن نرى بعضنا البعض، ونرى الدمار الوحشي الذي حلَّ بغزة وشعبها والذي يجب أن ينتهي. وأضاف: “عندما أنظر إلى باسل، أرى أخي، لكننا غير متساويين، فنحنُ نعيش في نظام عنصري غشوم، حيث أنا حر بموجب القانون المدني، وباسل يخضع للقانون العسكري الذي يدمّر حياته ولا يستطيع السيطرة عليه”. وأشار “أبراهام” إلى أنَّ صُنّاع فيلم “لا أرض أخرى” لم يتوصلوا بعد إلى اتفاق بشأن توزيعه في الولايات المتحدة، وقال يعتقد أن الأمر يرجع لأسباب سياسية. واتَّهمَ صُنّاعُ العمل الولاياتِ المتحدة بعرقلة التوصل إلى حل للأزمة، في إشارة إلى سياسات الرئيس الأمريكي ترامب. الفيلم الأكثر جـدلاً لقد أثار فيلم “لا أرض أخرى” جدلاً واسعاً في ألمانيا بعد عرضه في مهرجان برلين وحصوله على جائزتيْن منه، خاصًة بعد تصريح صُنَّاع العمل وإعلانهم تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وما يَحصل في غزة، فطلب “باسل العدرا” من الحكومة الألمانية التوقُّف عن تصدير السلاح لإسرائيل، وطالب بوقف إطلاق النار في غزة. مِن جانبه، قال “يوفال أبراهام”: إنه في هذا المهرجان قد يتساوى مع “باسل” لكنه حينما يعود لفلسطين، فباسل لا يملك نفس الامتيازات التي يتمتع بها هو، مِمَّا أثار غضباً واسعاً فاعتبر المتطرّفون خطاباتهم بأنها “معادية للسامية” حسب قولهم، فمن غير المألوف أن تقال مثل هذه الخطابات في بلد كألمانيا، أشدّ الداعمين لإسرائيل. ولعلَّ الجدل المحتدم حول طبيعة صُنّاع الفيلم وشجاعتهم النادرة؛ كان سبباً في فتح “أُوكازيون الجوائز” التي حاز عليها هذا العمل في فترة وجيزة، فقد حاز على عدة جوائز ذات أهمية بالغة، كان آخِرها جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي في حفل توزيع جوائز الأوسكار السابع والتسعين. أقـوى وسائل التعبيـر هذا، وتُعدُّ “السينما الوثائقية” واحدةً من أقوى وسائل التعبير الحديثة؛ فهي لا تقتصِر على توثيق الأحداث فحسب، بلْ تفتح نافذةً لتسليط الضوء على العواطف، والحقائق، والصراعات التي قد لا تكون معروفةً للعالَم. كما تنبُع قوة هذه السينما من قدرتها على نقل الواقع بتفاصيله كافة، وفي الكثير من الأحيان، تصبح المنبر الوحيد لقصص المهمّشين والمقموعين. وتتميز السينما الوثائقية الفلسطينية، بقدرتها الفريدة على تسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والتشريد، وتروي قصصاً لا يمكن لأيّ قوّة عسكرية محوها. إنها تقدّم شهادةً حيةً على صمود شعب ما زال يتمسك بهويته وأرضه، برغم محاولات الاحتلال المتكررة لتهجيره وتصفية هذه الهوية. فالأفلام الوثائقية الفلسطينية ليست مجرد وسيلة لتوثيق الأحداث، بلْ هي أداة مقاومة وسلاح ثقافيّ في يد الشعب الفلسطيني، تروي التاريخ من خلال تجارب الأفراد وحكاياتهم اليومية. وتقدّم السينما الوثائقية الفلسطينية صورةً حيّةً لآلام الشعب الفلسطيني، سواء الجماعية أو الشخصية، وتعرضها بشكلٍ يترك أثراً عميقاً في نفوس المشاهدين. لذا، يصبح كل فيلم وثائقي بياناً للصمود والحق، لا مجرد توثيق. ومِن خلال هذه الأفلام، يتحدث الفلسطينيون عن حقّهم في العودة، وعن تمسّكهم بالحرية، وعن صراعهم المستمر من أجل البقاء ... فكل مَشهَد في فيلم “لا أرض أخرى”، هو رسالة قوية مفادها أنَّ المقاومة تكون بالفنّ أيضاً. انتصار في أكبر المحافل الفنية العالمية هذا الفيلم الذي تمَّ إنتاجه بأسلوب بسيط، يُجسّد معركة الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم وهويتهم في مواجهة محاولات الاحتلال المستمرة لاستباحتها. والفوز الذي حظيَ به لا يُمثّل مجرد إنجاز سينمائي، بلْ هو انتصار لصوت الشعب الفلسطيني في واحدٍ من أكبر المحافل الفنية العالمية. فالمَشاهِد التي يَعرضها الفيلم، ليست مجرد توثيق لحاضر قاسٍ، بلْ هي جزء من صراعٍ طويل بدأ مع نكبة 1948، واستمرّ بالمجازر التي ارتُكبت في حق الفلسطينيين تاريخياً، وصولاً إلى احتلال الضفة الغربية عام 1967، ولم ينتهِ مؤخراً بحرب الإبادة على غزّة ... فالفيلم يُبرز هذه الحقائق المُرّة، ولكن لا يقدّمها كحكايات عن الهزيمة، بلْ كقصص عن الإصرار على البقاء. هذه الأرض هي جزء لا يتجزأ من التاريخ والجغرافيا الفلسطينيين، ولن تتمكن أي قوة استعمارية من محوها، وإن حاولت. أبعــاد الطابـع الإنساني إنَّ ما أضفى على فيلم “لا أرض أخرى” طابعاً إنسانياً عميقاً، هو تصوير الأطفال في هذه البيئة القاسية. هؤلاء الأطفال يخوضون معركةً وجوديةً، حيث يعيشون في ظلّ الخوف من المستقبل، وأحياناً من اللحظات التالية، لكنهم لا يزالون يحلمون بمستقبل أفضل. إذْ يُظهِر الفيلمُ أطفالَ “مسافر يطا”، وهم يلعبون في الحقول التي قد تُجرَف في أي لحظة، ويتعلقون بالأرض التي يهددهم الاحتلال بمحوها. هذه المشاهد تُبرز القوّة الكامنة في الضعف، والأمل في قلب المعاناة، وتُجدد إيماننا بقدرة الإنسان على مقاومة التحديات. الصـدق والبساطة لا ننسى أنَّ أسلوب إخراج فيلم “لا أرض أخرى”، اتَّسمَ بالبساطة والصدق، وهو ما عزَّز تأثيره العاطفي والإنساني، فقد اعتمد على تصوير الواقع كما هو، دون تجميلٍ أو تقنيات سينمائية معقدة. فالكاميرا تتنقِل بين الوجوه، ملتقطةً تفاصيل تعبيرات الأشخاص في لحظات غير مصطنعة، لتكشِفَ لنا الحقائق العميقة حول معاناتهم اليومية ... إنها لحظات بسيطة مثل تجمّع العائلات حول طعامها، أوْ الأطفال وهم يَركضون في الحقول، تظهر بشكل غير مسبوق على جمالها وحقيقتها، ما يَجعل المُشاهِد يشعر وكأنه يشاركهم لحظاتهم؛ لحظات تهديد هدم المنازل، والاصطفاف لمقاومة الجرّافات الإسرائيلية، والمقابلات مع الأهالي الذين يَصفون حياتهم اليومية التي تُعرض بطريقة واقعية للغاية، ما يجعل الفيلم تجربة مشاهدة مؤثرةً على المستوى الشخصي. جدير بالذّكر، أنَّ صناعة الأفلام الوثائقية الفلسطينية ليست بالأمر السهل، ففي ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، يواجه صانعو الأفلام العديد من التحديات مثل القمع، الرقابة، ومحدودية التمويل، وتقييد حرية الحركة. ومع ذلك، استطاع فيلم “لا أرض أخرى”، أن يَظهر كوثيقةٍ سينمائية تضاهي أفلاماً عالميةً في المهرجانات الدولية. ويمكن عدّه انتصاراً للحكاية الفلسطينية في مواجهة العوائق السياسية والفنية. أثر الفيلم على المجتمع الدولي الخلاصـــة: أنَّ فيلم “لا أرض أخرى” استطاع جذب انتباه جمهور عالمي، وتحفيز النقاش حول الحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية. فهو ليس مجرد فيلم يُعرَض في مهرجانات السينما، بلْ هو دعوة إلى إيقاظ الضمير العالمي بشأن ممارسات الاحتلال، إذْ يتجاوز مجرّد توثيق اللحظة، ويعكس التفاعل العاطفي القوي مع معاناة الفلسطينيين من خلال الصوت والصورة، ما يُعزّز تأثيره العاطفي والواقعي، ويجعل القصة أكثر صدقاً وقوةً. خلاصـــة الخلاصـــة: أنَّ فيلم “لا أرض أخرى” يُعدّ خطوةً أخرى في مسار طويل من النضال الفلسطيني، حيث يظهر لنا كيف يمكن للفيلم الوثائقي أن يكون أكثر من مجرد أداة توثيقية، فهو سلاح ثقافي قويّ يعكس الفيلم معاناة الشعب الفلسطيني، ويُظهر -أيضاً- أنّ التحدّي لا يتوقف، وأنَّ الأمل دائماً موجود. وهذه النوعية من السينما تُظهر لنا معركة الفلسطينيين من أجل الأرض، والهوية، والكرامة، والوجود. وكل مشهد في “لا أرض أخرى”، هو رسالة قوية مفادها أنّ المقاومة تكون بالفنّ أيضاً.