لماذا لم تعد المدرسة البيت الثاني؟

هل كانت المدرسة يومًا بيتًا ثانيًا حقًا، أم أننا نحن من غيرنا معالمها؟ نشهد في عصرنا الحالي، وبما تمر به مملكتنا العزيزة من تحولات، اهتمامًا بالغًا بالتعليم وسعيًا مستمرًا لتطويره ورفع مخرجاته، وقد نجحت المملكة في بناء جيل لم يعد يرى لقب “دافور” أمرًا جارحًا، بل يسعى للتفوق مدفوعًا بدعم وتمكين المتميزين علميًا. ومع ذلك، نجده جيلًا “ضجرًا” يرغب في التعلم لكنه يملّ من طرقه التقليدية، رغم تطوير أساليب التعليم و تعزيزها بأنماط المتعلمين المختلفة و مراعاة فروقهم الفردية، واستحداث أنظمة تحفظ حقوق المعلم والطالب مما قلل من الاجتهادات الشخصية المبددة أو الداعية للمشكلات. فلماذا، إذن، لم تعد المدرسة بمثابة بيت ثانٍ للطلاب و الطالبات؟ أعزو ذلك لعدة أسباب: ١. العلاقة بين الأسرة والمدرسة لم تعد كما كانت تجلّت إحدى أبرز التحديات في العلاقة بين الأسرة والمدرسة، حيث تحولت من اتحاد تربوي متكامل إلى علاقة ندية تعزز استقلال الطالب عن المدرسة تربويًا. الأسرة اليوم، في ظل عصر مادي يعتمد على “القوة” - سواء سلوكيًا أو قانونيًا - ساهمت في إضعاف دور المدرسة كمصدر للقيم، كما لم تعد المواقف تقاد بناء على قيم مشتركة كما هو بالسابق و كما يجب على المجتمعات الإنسانية المتحضرة أن تكون، و ذلك قد جعل المدرسة تتنافس مع مصادر تربية متنوعة وعشوائية، أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي. فلم تعد الأسرة ترى المدرسة شريكًا أساسيًا في التربية، بل أصبحت تنتقدها أو تواجهها أحيانًا، مما أدى إلى خلق فجوة بين الطرفين. في السابق، كانت المدرسة والأسرة تعملان معًا لتنشئة الأبناء، امام مصادر تنشئة أخرى مثل الأعلام و الكتب التي كانا مقننان بعض الشيء، أما اليوم، فتحتاج كل منهما إلى الأخرى أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط لمواجهة عشوائية المصادر الافتراضية، بل لتمكين الأبناء من خوض تجاربهم في المجتمعات الإفتراضية بثقة وأمان. ٢. الحماية الزائدة وتأثيرها على الأجيال الجديدة تبالغ بعض الأسر في حماية أبنائها، مما أدى إلى تقليل مرونتهم النفسية، وجعلهم أقل استعدادًا لمواجهة الصراعات الطبيعية في الحياة. و الأسرة التي تشجع أبناءها على الحوار، وتحملهم المسؤولية وفقًا لأعمارهم، وتساعدهم على تطوير مهاراتهم، من خلال إلحاقهم في مراكز و اكاديميات تعليمية و فنية فإنها تساهم في بناء شخصيات أكثر توازنًا.  فقد تجرأ الطلاب من مراحل عمرية مختلفة على قول: “سأتصل بأهلي؛ لأنني أشعر بالملل”، دون الشعور بأنهم بحاجة إلى مبرر منطقي، فإن هذا يعكس لنا بأن المدرسة لم تعد مكانًا محفزًا لفضولهم أو مشبعًا لحاجاتهم النفسية والاجتماعية، بل أصبحت بيئة روتينية، بعيدة عن عالمهم الافتراضي السريع والمتغير. مع اقتناعهم بأن عدم تماهيهم مع مالا يرضيهم هو حق مشروع للتعبير عنه و أخذه. ٣. الحياة الرقمية.. واقع سريع لا يشبه المدرسة التطور التكنولوجي أتاح للطلاب بيئة مختلفة تمامًا عن المدرسة، حيث يمكنهم الوصول إلى كل شيء بسهولة وسرعة، مما أثر على نظرتهم للحياة الواقعية. • التعامل مع الفشل أصبح أصعب: لأنهم اعتادوا على تحقيق نتائج سريعة في العالم الرقمي، فلم تعد لديهم القدرة على الصبر عند مواجهة التحديات. • المقارنات المستمرة: الاطلاع المستمر على حياة الآخرين عبر وسائل التواصل يعزز الضغط النفسي، ويدفع الكثيرين إلى مقارنة أنفسهم بالآخرين في النجاح أو حتى في تفاصيل الحياة اليومية. • إيقاع المدرسة البطيء: بعد التعود على التفاعل السريع مع المحتوى الرقمي، تبدو المدرسة أقل مرونة، مما يجعل البعض يشعرون بالملل. • تفاعل افتراضي أكثر من الواقعي: رغم أن هذا الجيل أكثر وعيًا بقيم التنوع، إلا أن الكثير منهم يميل إلى الفردية في علاقاته الشخصية، حيث أصبحت علاقاته الافتراضية أكثر حضورًا من تفاعلاته الاجتماعية الحقيقية. ٤. مصادر التعلم الحديثة وتأثيرها على دور المعلم في الماضي، إذا واجه الطالب صعوبة في فهم درس ما لم يكن أمامه خيار سوى محاولة استيعابه مع المعلم أو الاستعانة بدروس إضافية. أما اليوم، فقد أصبح لكل طالب “معلمه الخاص” في جهازه المحمول، مما جعله أكثر استقلالية في عملية التعلم. لم يعد بحاجة إلى بذل جهد إضافي لفهم الدرس داخل الفصل، لأنه يستطيع الوصول إلى مصادر أخرى بسهولة، إذا لم يكن الطالب في مزاج جيد يسمح له بتلقي الدرس، أو لم يكن لديه دافع كافٍ للمحاولة، فلن يشعر بأنه خسر شيئًا، لأنه يستطيع لاحقًا مشاهدة الفيديوهات التعليمية، أو استخدام منصات التعلم الذاتي مما قلل من قيمة التفاعل المباشر مع المعلم، وأضعف دور المدرسة كمصدر أساسي للمعرفة. ٥. المدرسة لم تعد المحور الاجتماعي الأساسي كانت المدرسة في السابق نافذة يطل منها الطلبة على العالم، حيث يلتقون بأصدقائهم، ويعيشون تجاربهم الاجتماعية الأولى. اليوم، لم تعد المدرسة هي المساحة الوحيدة للتفاعل الاجتماعي، لأنهم يلتقون بأصدقائهم في أماكن متعددة خارج الدوام وبشكل دوري إذ لم يكن دوري، مما جعل المدرسة مجرد محطة عابرة ضمن يومهم المزدحم بالأنشطة والمواعيد. ٦. الضغط النفسي على طلبة المرحلة الثانوية طلبة الثانوية يواجهون تحديات متعددة، فهم مطالبون بتحقيق درجات عالية، والاستعداد لاختبارات القدرات، والتنافس على القبول الجامعي. هذا الضغط المستمر يؤدي إلى: • القلق والخوف من المستقبل بسبب المنافسة الشديدة. • التشتت وضعف التركيز نتيجة الإجهاد النفسي. • الإحباط والشعور بالفشل عند تكرار المحاولات دون تحقيق النتائج المرجوة. ٧. كيف يمكن استعادة دور المدرسة؟ لم تعد المدرسة اليوم تمثل البيئة التعليمية والاجتماعية التي يجد فيها الطلاب و الطالبات أنفسهم كما كانت في السابق. التكنولوجيا فرضت واقعًا جديدًا، و أصبح لدى الطلبة بدائل متعددة سوا للتعلم أو التواصل. إذا فالأسرة لم تعد ترى بأن المدرسة شريكًا لها، و الطلبة لم يعد يرون المدرسة مصدرًا للتعلم و ليست فضاءًا اجتماعيًا جاذبًا، و التكنولوجيا سلاحًا ذو حدين، و المهارات الإجتماعية و النفسية يجب أن تمنهج بطريقة تفاعلية تتماشى مع توجهات هذا الجيل و تركيبتهم النفسية و التغيرات المجتمعية و التطور التكنولوجي، فإن الحل لا يكمن في مقاومة هذا التغيير، بل في فهم طبيعة الجيل الجديد، وإيجاد طرق تعليمية أكثر تفاعلًا، تتماشى مع احتياجاتهم النفسية والاجتماعية، ربما من الممكن إعادة صياغة التجربة المدرسية بحيث تصبح أكثر ارتباطًا بعالمهم. هل يمكننا أن نجعل المدرسة بيتًا ثانيًا مرة أخرى؟