عام الحرف اليدوية 2025..

صنـاعــة البـخــور.. عبق الزمن

يُعَدُّ البخور من أقدم العطور التي عرفها الإنسان، حيث ارتبط استخدامه بالمناسبات الدينية والاجتماعية، وأصبح رمزًا للفخامة والضيافة في مختلف الثقافات، وفي المملكة يحتل البخور مكانة خاصة تعكس عمق التراث والتقاليد العربية، إذ يُستخدم في المجالس والمناسبات لتعطير الأجواء، ويُقدم كهدية ثمينة تدل على الكرم والأصالة. وتُعرف المملكة بصناعتها المتميزة للبخور، حيث تجمع بين أجود أنواع العود والمواد العطرية الفاخرة مثل المسك والعنبر والورد الطائفي، مما يجعل البخور السعودي من الأرقى عالميًا، وقد توارثت الأجيال فنون صناعته، فظل مزيجًا متقنًا بين الحرفية التقليدية والابتكار الحديث، مما ساهم في الحفاظ على أصالته مع تطور أساليب الإنتاج، ليبقى جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية للمجتمع السعودي. تاريخ طويل يعود أقدم تاريخ موثّق للتعامل مع البخور باحترافية في شبه الجزيرة العربية إلى نحو 3000 قبل الميلاد، حيث كشفت التنقيبات الأثرية في منطقة “ذي عين” التاريخية في الباحة عن بقايا مواد متفحمة ذات روائح عطرية، وُجدت بجوار أدوات يُرجَّح أنها استُخدمت في التبخير، هذه الاكتشافات تدل على تطور مبكر في استخدام البخور بشكل منظّم، وإن كان هناك إشارات إلى استخدام أقدم له في طقوس دينية أو شعائر لم تتضح ماهيتها بشكل كامل. وبالتزامن مع ذلك، عُرفت منطقة الأحساء باستخدام منظم للبخور والزيوت العطرية، مما يعكس نشوء تقاليد تجارية وصناعية مرتبطة بالعطور في هذه المناطق، وقد اعتمدت تلك الحضارات على اللبان بشكل أساسي، إلى جانب خشب العود والأعشاب العطرية، وتشير بعض المصادر إلى أن منطقة نجران كانت مركزًا لإنتاج اللبان، حيث تنمو أشجار “البوسويليا” التي يستخرج منها هذا الراتنج الثمين. لم يقتصر الأمر على استخدام البخور فحسب، بل تطور إلى فنّ متكامل يشمل تصنيع الزيوت العطرية وخزنها وتطوير أدوات استخدامها، حيث وُجدت زجاجات وأدوات قديمة يُعتقد أنها كانت تُستخدم في صناعة وحفظ دهن العود والزيوت العطرية. وقد أسهمت طرق التجارة النشطة التي ربطت الجزيرة العربية بحضارات العالم القديم في تعزيز هذه الصناعة، حتى أن المؤرخ الإغريقي “ديودور الصقلي” وصف الجزيرة العربية في القرن الأول قبل الميلاد بأنها “أرض العطريات”، وتشير الرسوم الجدارية في أحد معابد مصر القديمة (1500 ق. م) إلى رحلات استجلاب البخور من جنوب الجزيرة العربية، مما يثبت أن هذه المنطقة كانت مصدرًا رئيسيًا للبخور والعطور في العالم القديم، وهو إرث استمر تأثيره حتى العصر الحديث. طريق البخور يُعتبر طريق البخور من أقدم شبكات التجارة التي عرفتها البشرية، حيث امتد لآلاف السنين رابطًا بين جنوب الجزيرة العربية والحضارات العظيمة في الشرق والغرب، كانت القوافل المحمّلة بالبخور واللبان والمرّ والتوابل والذهب تعبر هذا الطريق، ناقلةً معها ليس فقط السلع الثمينة، بل أيضًا الثقافات والمعارف والتقاليد، وقد أتاح هذا الطريق تدفق السلع وانتقال الأفكار والتقنيات بين جنوب شبه الجزيرة العربية والبحر الأبيض المتوسط وبلاد الرافدين وما وراءها ، مما جعله شريانًا حيويًا للتبادل الثقافي والتجاري، وكانت العُلا جزءًا حيويًا من طريق البخور، وقد استمرت أهمية طريق البخور عبر العصور، حيث ظل شريانًا اقتصاديًا وثقافيًا يربط بين الشرق والغرب، مما يعكس دوره المحوري في تاريخ التجارة والتبادل الثقافي. رمز للهوية لا يقتصر البخور في حياة السعوديين على كونه منتجًا عطريًا، بل يُمثل جزءًا أصيلًا من الهوية الثقافية والاجتماعية، فهو حاضر في المجالس لاستقبال الضيوف، ويُستخدم في المناسبات الدينية، خاصة في شهر رمضان ومواسم الحج والعمرة، حيث تعطر به المساجد والمنازل، كما أصبح البخور مظهرًا من مظاهر التقدير والاحترام، حيث يُقدَّم كهدايا فاخرة في الأفراح والمناسبات الرسمية، مما يعكس مكانته العميقة في وجدان المجتمع السعودي. تشتهر عدة مدن سعودية بصناعة أجود أنواع البخور، حيث تُعد مكة المكرمة والمدينة المنورة من أبرز المراكز التي تبيع وتُصنّع البخور، نظرًا للإقبال الكبير عليه من الحجاج والمعتمرين لاقتنائه كهدايا تذكارية ذات قيمة روحية وثقافية، وتشتهر الأسواق المحيطة بالحرمين الشريفين بعرض أنواع فاخرة من العود والمخلوط، إضافة إلى توليفات خاصة تحمل بصمة الحرفيين المحليين، كما تُعرف الطائف بإنتاج العطور الممزوجة بالورد الطائفي، وهو مكون أساسي في بعض أنواع البخور الفاخرة، وتُسهم العاصمة الرياض والأحساء وجدة أيضًا في هذه الصناعة، حيث تضم العديد من الشركات والمتاجر المتخصصة التي تجمع بين الحرفية التقليدية والتقنيات الحديثة، مما جعل السوق السعودي وجهة رئيسية لعشاق البخور الفاخر في العالم. خطوات الصناعة تتطلب صناعة البخور مهارة ودقة في اختيار المكونات ودمجها لتحقيق التوازن المثالي بين الرائحة والثبات والجودة، تبدأ العملية باختيار المواد الخام، حيث يُستخدم العود المستخلص من أشجار معينة تنمو في مناطق استوائية مثل الهند وكمبوديا، إلى جانب مواد أخرى مثل الصندل والمسك والعنبر والورد، ويتم طحن هذه المكونات بدقة للحصول على مسحوق ناعم يُشكل الأساس العطري للبخور. بعد تجهيز المكونات، تأتي مرحلة الخلط، وهي الأهم في تحديد جودة البخور ورائحته، حيث يُضاف المسحوق العطري إلى مادة لاصقة طبيعية مثل الصمغ العربي أو العسل، مما يساعد على تماسكه ويمنحه القدرة على الاحتراق التدريجي، وفي بعض الأنواع يتم استخدام الزيوت العطرية المركزة لتعزيز الرائحة وإضفاء طابع فريد على المنتج النهائي، ثم يُترك الخليط ليتخمر في ظروف معينة، حيث تسهم هذه العملية في تعميق الروائح ودمج المكونات بطريقة متجانسة. عقب ذلك، تبدأ مرحلة التشكيل، حيث يُصنع البخور بأشكال مختلفة وفقاً لنوعه واستخدامه، مثل العيدان أو الأقراص أو المكعبات الصغيرة، ويُترك البخور ليجف تمامًا في بيئة ذات تهوية مناسبة للحفاظ على ثبات الروائح، ثم يخضع لمراحل فحص دقيقة للتأكد من جودته قبل تعبئته في عبوات مصممة للحفاظ على رائحته العطرية لأطول فترة ممكنة، وبهذه العملية المتقنة يخرج البخور بروائحه الفاخرة التي تجسد إرثًا ثقافيًا متوارثًا، يربط الماضي بالحاضر ويعكس فنون العطور العربية الأصيلة، وتشهد هذه الصناعة تطورًا ملحوظًا بفضل الابتكارات في طرقها ومزج الزيوت العطرية، وتقديم منتجات تناسب أذواقًا متنوعة، مع الحفاظ على الطابع التراثي، كما لعبت التجارة الإلكترونية دورًا بارزًا في انتشار البخور السعودي عالميًا، حيث أصبحت المتاجر تعرض منتجاتها الفاخرة عبر منصات رقمية، مما عزز من مكانة المملكة كمصدرٍ رئيسيّ للبخور والعطور الشرقية الراقية. تطيب الحرمين يحظى المسجد الحرام والمسجد النبوي بعناية خاصة في مسألة التطييب والتبخير، انطلاقًا من مكانتهما الروحانية وموقعهما في وجدان المسلمين حول العالم، تتولى الهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين الإشراف على عمليات التبخير المنتظمة داخل الحرمين، حيث تُستخدم أفخر أنواع البخور؛ ففي المسجد الحرام يتم استعمال أكثر من 2 كجم يوميًا عبر 20 جولة على مدار اليوم خلال شهر رمضان، كما يتم تطييب الحجر الأسود والملتزم والركن اليماني بالعود ودهن العنبر والورد الفاخر لنشر العبير الزكي، والأمر ذاته يتكرر في المسجد النبوي، وقد بلغت عدد جولات التطييب والتبخير في المسجد النبوي خلال الثلث الأول من شهر رمضان 450 جولة، استهلك خلالها 6 كيلوجرامات من البخور و57 لترًا من العطور الفاخرة، وهو ما يضفي أجواءً روحانية مميزة على المكان، ومزيدًا من الطمأنينة والخشوع على تجربة الزائرين والمصلين. تُستخدم المباخر الخاصة التي تحافظ على حرارة العود دون شرار أو دخان مزعج، مما يضمن راحة المصلين والمعتمرين. وتُنفّذ هذه العمليات عبر فرق متخصصة تجوب المسجدين لنشر الروائح الزكية وتطييب أيدي الزوار بدهن العود والمسك، في مظهر يعكس كرم الضيافة والعناية الفائقة التي توليها المملكة لخدمة الحرمين الشريفين، ويبرز التبخير كجزء من العناية المتكاملة بالحرمين، التي تحرص على توفير بيئة مثالية للمصلين والمعتمرين. فمع تزايد أعداد الزوار، تكثّف الهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين جهودها لضمان استمرارية هذه العادة المباركة، بدعم وتوجيه مباشر من القيادة الرشيدة، التي تسخّر الإمكانيات كافة لتعزيز قدسية المكان، ما يجعل تجربة زيارة الحرمين تجربة روحانية متكاملة تمزج بين العبادة والسكينة والجمال العطري الفريد.