حكاية الدكاترة زكي مبارك.

كان يوقّع مقالاته تحت اسم “الدكاترة زكي مبارك”، وذلك لأنه حصل على ثلاث شهادات دكتوراه: فقد تقدّم برسالة لنيل الدكتوراة بعنوان “الأخلاق عند الغزالي”، وكانت أول شهادة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية (جامعة القاهرة فيما بعد)، ثم سافر على نفقته الخاصّة إلى باريس وحصل على دكتوراه ثانية من جامعة السوربون، وكانت رسالته بعنوان “النثر الفني في القرن الرابع الهجري”، وعاد بعد ذلك إلى مصر وانصرف إلى تحضير دكتوراه ثالثة عن “التصوّف الإسلامي”، فحصل عليها من الجامعة المصرية. كان يُحبّر مقالات طويلة تحت عنوان “أحاديث ذات شجون”، تفترش صفحة كاملة من جريدة “البلاغ” أو في مجلّة “الصباح”، ولأنه كان يرتجل أحاديثه، فقد كان القاريء يجد فيها خليطاً عجيباً من كلام العُقلاء ودردشات العوام، حيث كان يكتب أيّ كلامٍ يخطر على البال في ثرثرة أدبية، لا ريب مُمتعة بكلّ ما فيها من شذوذ العباقرة، وفلَتات الألسن، وتداعيات الذهن والخاطر. ولم يسلم ديوانه الشِعري الوحيد “ألحان الخلود” من هذه الاستطرادات يسوقها كيفما اتّفق، وكأنه ترك العنان لقلمه يكتب ما يشاء دون ضابط، حتى وإن جاء هذا الكلام جليلاً أو سقيماً. لقد كان ينطلق على سجيّته، وليس يُبالي أن يجيء كلامه كوخز الإبر، يخدش ويجرح ويصيب المَقاتل، وكان المرء يقف منه موقف الإشفاق من حياة تنتقص من قيمته الأدبية، وتكاد تُلحقه بصعاليك الأدب. عُرف زكي مبارك بغزارة الإنتاج، فقد ألّف أكثر من أربعين كتاباً، منها: “اللغة والدين والتقاليد” و”البدائع” و”الموازنة بين الشُّعراء” و”مدامع العُشّاق” و”ذكريات باريس” و”ملامح المجتمع العراقي”.. واشتهر بكثرة المعارك الأدبية، وكان يُحبّ الخصومات لأنها “تُذكي عزيمته” حسب قوله، ويرى أنه موكلٌ “بترويع الآمنين من رجال الأزهر والجامعة المصرية ووزارة المعارف، لأنهم يأكلون العيش باسم العِلم والأدب، ثم لا يُقدّمون ولا يُؤخّرون في دُنيا ولا دين”! خاض معاركه الأدبية مع طه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد أمين وأحمد لطفي السيّد ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات وإبراهيم المازني وسلامة موسى وغيرهم، ولم تكن تلك المعارك إلا ذريعة للتنفيس عن شعورٍ طاغٍ بالاضطهاد الذي كان يًعاني منه؛ منذ وقف طه حسين في وجه تعيينه أستاذاً في كُليّة الآداب، مما قصَر حظوظه الوظيفية على عمل المُفتّش في وزارة المعارف. فقد كان يعتقد - بحسب اعترافه - بأن كلّ أدباء مصر دونه مرتبةً؛ فأحمد لطفي السيّد مثلاً “صيّرته المقادير رئيساً للمجمع اللغوي”، أما طه حسين فقال عنه “إنه كان أُميّاً لا يقرأ ولا يكتب”، وكأنه يُعيّره بكونه كفيفاً يعتمد في القراءة والكتابة على سكرتيره ..! ومن المؤكّد أنه ما كان يليق بكاتب كبير كزكي مبارك، أن يتوسّل بمثل هذه العبارات الجارحة للنيل من خصومه.. ولو تحلّى بشيَم العُلماء الأُصلاء لقارع الحُجّة بالحُجّة، وحصَر النقاش في الأثر الأدبي ولم يُجاوزه إلى شخصية مُنازِله، ولكن عُقدة الاضطهاد التي كان يُعاني منها، هي التي أخرجته عن طوره، وصوّرت له أنه في حلبة لمُصارعة الثيران، ولا بد ّ له وهو “الميتادور” البارع أن يصرع كلّ الثيران في الحلبة! ثم أن رحلة “العراق” جاءته كحبلٍ مُدّ لغريق، إذ اختارته حكومة العراق للتدريس في معهد التعليم العالي، وبهذا أخرجته من “جحيم الظٌّلم في القاهرة” إلى “سعير الوجد في بغداد”، حسبما جاء في عنوان قصيدته البغدادية المطوّلة. فقد ألفى نفسه موضع حفاوة وتكريم طوال الأشهر التّسعة التي قضاها هناك، فالهيئات الأدبية والمعاهد الجامعية تتسابق في استضافة هذا الألمعي الخارج من مسقط رأسه في قرية “سنتريس”، والمتخرّج من “باريس”، وهُما - في رأيه – أعظم مدينتين في العالم، ومُنح “وسام الرافدين”، ولقد كان يتمنى لو أنفق بقيّة عُمره في العراق، ولكن المعهد الذي كان يقوم بالتدريس فيه أُغلق بعد تلك السنة الدراسية، وكان لا مفرّ من العودة إلى مصر. وإزاء ما تمتّع به في العراق من تقدير، أصدر كتابه الضخم “ليلى المريضة في العراق”، الذي اقتبس عنوانه من قصيدة قيس بن الملوّح ومطلعها: تذكّرتُ ليلى والسّنين الخواليا وأيامَ لا نخشى على اللّهوِ ناهيا إلى أن قال: يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ فيا ليتني كُنتُ الطبيب المُداويا وكم تمنّى أن يكون مُبارك هو الطبيب الشافي الوحيد لليلى! ومن شعر زكي مبارك المُعبّر عن مُعاناته وطُموحه: جنَتْ عليّ الليالي غير ظالمةٍ إني لأهلٌ لِما ألقاهُ من زمني فما رأيتُ من الأخطار عاديةً إلا بنيتُ على أجوازها سكَني ولا لمحتُ من الآمالِ بارقةً إلا تقحّمتُ ما تجتازُ من قُنَنِ أحلتُ دُنيايَ معنىً لا قرارَ لهُ في ذِمّة المجدِ ما شرَّدتُ من وَسَنِ