عن الشعر والشعراء.

هذه ترجمة لمقال الدكتور غازي القصيبي يرحمه الله On poetry and poets) عن الشعر والشعراء)، التي وردت في كتابه Arabian Essays الصادر في عام 1982 عن KPI Limited ............. الشاعر هو الشخص الذي يستطيع تفسير تجاربه وعواطفه بطريقة فنية وموسيقية معينة. قد يكون الشاعر عالماً أو تاجراً أو مهندساً، وقد يميل سياسياً إلى اليمين أو اليسار، وقد يكون طويلاً أو قصيراً، وعندما يمر في الشارع لا تلاحظ في مظهره شيئاً يشير إلى موهبة شعرية أو أي صفة رومانسية. الشاعر ببساطة فرد مثل غيره من الأفراد، ولا شيء يميزه عن غيره سوى موهبته في التعبير عن نفسه بالشكل الفني للشعر. ولكن يبدو أن هذه الصورة البسيطة لا تروق لبعض النقاد، ولا لكثير من الشعراء، الذين اختاروا أن يتحدثوا عن الشعر من منظور يقترب من عالم السحر والشعوذة. فهم يتحدثون عن الشاعر وكأنه مخلوق أسطوري رائع يعيش على القمر، ويحيطونه بالخيالات ويضعون هالات حول رأسه؛ وكل هذا يدفع القارئ العادي إلى الاعتقاد بأن الشاعر يتميز بخصائص تميزه عن بقية البشر العاديين. إن من بين الأوهام الشائعة حول الشاعر أنه أكثر حساسية من غيره من البشر، وأكثر حدة في الإدراك، وأكثر قدرة على التعاطف العميق. ورغم أننا قد نعذر الشعراء أنفسهم على حماسهم لهذا التقييم لقدراتهم (وهم يبذلون قصارى جهدهم لنشر هذا التقييم)، فإنني لا أدري ما الذي قد يدفع آخرين إلى مثل هذا الرأي. فليس هناك ما يثبت أن الشاعر أكثر حساسية من غيره، وأولئك الذين يعرفون الشعراء كمعارف شخصية يعرفون أفضل من غيرهم أنهم، مثل بقية البشر، معرضون لكل أنواع الضعف البشري. فهناك شعراء يتميزون بأنانيتهم اللامحدودة، وآخرون يتصرفون بفظاظة، وهناك آخرون يحبون المكافآت المادية في العالم بشغف يتضاءل إلى جانب حبهم لحوريات الشعر ورومانسية القصيدة. ويسعى البعض إلى الثناء مثل الأطفال، ويخشون كلمة انتقاد كما تخشى امرأة لقاء امرأة أخرى ترتدي نفس الفستان. إن القدرة على الحب والعطاء والشعور لا تقتصر على الشعراء، فبقدر ما تمنح هذه القدرة لمخلوقات الله، فإن بعض كتاب النثر قد يحبون الإنسان بعمق وإخلاص، ومن خلالهم تمر مشاعر أعمق وأغنى، ويعيشون تجارب تفوق في نقاءها وروعتها تجارب أغلب الشعراء. ومن بين الأوهام التي تحيط بالشعر باستمرار الاعتقاد بأن الشعر (لسبب غير معروف، لم يفسره أحد بوضوح من قبل) يتفوق على وسائل التعبير الأخرى؛ وهو وهم يدفع العديد من طلاب المدارس الثانوية إلى تجربة الشعر، وهذا هو ما يدفع بعض كتاب النثر إلى الإصرار على أن ما يكتبونه هو شعر. هذا هو ما يجعل أغلب الشعراء يشعرون بالفخر والتفوق على غير الشعراء. إن الحقيقة ـ وأستميح الشعراء من بين قرائي عذرا ـ هي أن الشعر لا يتفوق بأي حال من الأحوال على أشكال التعبير الفني الأخرى. فقد تكون قطعة من النثر أقوى وأجمل وأكثر عمقاً في التأثير من قطعة من الشعر. وقد تثير المسرحية في جمهورها رد فعل من النوع الذي لا يمكن بلوغه في مائة مجلد من الشعر. والواقع أن الكلمة اليومية التي ينطق بها الإنسان العادي قد تكون في بساطتها عفوية وصادقة، وأقوى من أعمق الرموز الشعرية. ويسرد بعض النقاد الصفات التي لابد وأن يتحلى بها الشاعر إذا كان له أن ينال استحسانهم. وأحد هذه الشروط أصبح سريعاً من المقولات المبتذلة: وهو أن الشاعر لابد وأن يكون مفكراً عظيماً أيضاً. لا شك أن الموهبة التي تتغذى على تجربة عميقة أكثر قدرة على التعبير من الموهبة التي تتغذى على ذاتها فقط. ولكن جعل العمق التزاماً على الشاعر أمر آخر تماماً. فالشاعر قد يكون مبدعاً من دون أن تكون لديه أفكار عميقة. ولم ألحظ أفكاراً عظيمة تخيم على المواهب الإبداعية لبودلير أو ريلكه أو بايرون. أو لدى الشعراء العرب المعاصرين مثل السياب أو ناجي أو أبو ريشة أو نزار قباني. إن بعض النقاد، الأكثر تواضعاً، لا يصرون على أن الفكرة العظيمة إلزامية، ويعلنون رضاهم إذا قدم الشاعر دليلاً على وجود «رؤية عالمية» محددة، أو القدرة على النظر إلى المستقبل والتنبؤ بمصير الحضارات. ويفشل بعض النقاد في الاستمتاع بالشعر مهما كان رائعاً في حد ذاته، على أساس أن المؤلف لا يعبر عن موقف محدد من الوجود. ويوجه بعضهم اللوم مرة أخرى إلى الشاعر لأنهم بحثوا في شعره عن لمحة من المستقبل وفشلوا في العثور عليها، وكأن الشاعر لابد أن يكون نوعاً من العرافين أو المنجمين. ولكن الشاعر قد يكون فيلسوفاً أو لا يكون؛ وقد يحدد وجهة نظر عالمية أو لا يكون؛ وقد تكون لديه موهبة النبوءة أو قد تفتقر إليها ـ دون أن ينتقص أي من هذا من قوته كشاعر. ثم نأتي إلى تلك السمات الخاصة التي يحددها كل ناقد وفقاً لمزاجه الشخصي وذوقه. فهنا نجد ناقداً يطلب الاستشهاد الدقيق بفترة محددة من تاريخ الأدب، على سبيل المثال، فيسعد لأن الشاعر يبدو منغمساً في الأساطير اليونانية. (ربما يكون هذا التحديد هو الذي يجعل الشعر الحديث يبكي على أنقاض الأوليمبوس، تماماً كما بكى شعرنا العربي القديم على دخُل، ويصف طائر الفينيق ـ الطائر الأسطوري الذي يُستهلك ويتحول إلى رماد، ثم ينهض من جديد، وهكذا دواليك ـ تماماً كما اعتاد شعرنا القديم وصف الناقة). وهناك ناقد آخر لا يرضى بالشاعر إلا إذا امتلك القدرة على البحث عن رموز التراث الثقافي واكتسابها. وهناك ناقد آخر يعجب بقدرة الشاعر على الربط بين القضية العامة والتجربة الشخصية. وإذا جمعنا مواصفات الشعراء كما يراها النقاد المختلفون، نجد أنها تملأ كتباً بقدر ما تملأ مواصفات مشروع عام ضخم. وبعد هذه المواصفات المبالغ فيها، يأتي الخلاف حول دور الشاعر. فبالنسبة للبعض ليس دوراً عائلياً واجتماعياً ووطنياً كأي مواطن آخر؛ ولا يكفيه أن يعبر عن تجاربه وأحاسيسه في الشعر الذي ينشره بعد ذلك، فيرضي البعض ويغضب البعض الآخر. وهنا يريد الشاعر أن يتحول إلى جهاز راديو، يتكلم أو يصمت حسب طريقة لعب الأصابع. وهنا يريد الشاعر أن يتحول إلى وزارة إعلام مصغرة، تنشر الأخبار، وتنشر صحيفة كاملة بالإعلانات. وهنا يريد الشاعر أن يتحول إلى وزارة دفاع، تصد مؤامرات العدو، بقصائد قوية في دعم الأصدقاء، وتحول أشد الهزائم خزيًا إلى انتصارات بقوة شعره. لا أرى سبباً يمنعنا من المضي قدماً في هذا المنطق ـ إلى الحد الذي نطلب فيه من الشاعر تنظيم تدفق حركة المرور باستخدام عداد الرجز لتسهيل تذكر السائقين للقواعد؛ ونطلب من الشعراء تأليف توجيهات زراعية بالشعر لصالح المسؤولين والمزارعين؛ ونتوقع منهم بالتأكيد أن يكتبوا أبياتاً مدوية عن أسبوع الصحة، وإلغاء الأمية، وتحسين الطرق السريعة. إن الحديث عن دور الشاعر يقودنا حتماً إلى موضوع قديم ولكنه جديد على الدوام: «الالتزام»، «واجب» الشاعر. إن اعتقادي الشخصي هو أن التزام الشاعر يتلخص فقط في أن يكون صادقاً مع نفسه، ومع تجربته الخاصة، ومع الآخرين. ومن الواجب على الشاعر أن يضمن ألا يكون قلبه زائفاً، وأن يكون تفسيره لخبرته الخاصة صادقاً، وألا يعرض مشاعره للبيع أو الإيجار. والالتزام بهذا المعنى ضرورة لا مفر منها إذا كان للشاعر أن يعبر عن نفسه بنقاء ونزاهة. ولكن الواجب الذي يسعى بعض النقاد إلى فرضه على الشاعر، والذي أصبح رائجاً في شعرنا الحديث، هو من نوع مختلف. فما يعنيه هؤلاء النقاد بالالتزام هو أن الشاعر لابد أن يكون في خدمة وجهة نظر معينة. أما أولئك الذين يؤمنون بهذا القيد الذي يقيد حرية الشاعر فيمتدحونه بشعارات تتحدث عن الحالة الإنسانية وتشيد بـ «الفن الحي»، وتتجاهل الشعر من أجل ذاته. وهم ينسون أن الشعر «الإنساني» لا يقتصر على شعراء معينين فقط؛ وأن الفن لا يمكن أن ينسحب من الحياة؛ وأن المشكلة الإنسانية سياسية أحياناً، وفلسفية أحياناً، وعاطفية أحياناً أخرى. إن أولئك الذين يزعمون أن الشعر السياسي يتفوق على الشعر الرومانسي يتجاهلون طبيعة الإنسان الذي يحب ويغني للحب، حتى في الحروب والصعوبات والكوارث. وأولئك الذين يزعمون أن هناك نوعين مختلفين من الفن ـ «الفن من أجل الحياة» و»الفن من أجل الفن» ـ يفشلون في إدراك أن الفن ذاته لا يقبل هذا التقسيم المصطنع. وأولئك الذين يوبخون الشاعر لكونه فردياً ينسون أن الشعر الذي لا يعكس أنانية الشاعر وقلقه وانفعالاته هو شعر بلا جوهر، وبلا لون وبلا مشاعر. إن الدعوة إلى تجنيد الشعر في خدمة المشاكل السياسية والاقتصادية تغض الطرف عن حقيقة أساسية: وهي أن الشعر لا يمثل بداية أو نهاية الفكر الإنساني. لقد لجأ الإنسان إلى الدين في بحثه عن أصول الوجود وغايته؛ ولجأ إلى الفلسفة لمساعدته على فهم ألغاز الحياة والذات. ويمكن للإنسان أن يلجأ إلى العلم في محاولة لاكتشاف قوانين الطبيعة والطرق التي يمكن بها استغلالها. لقد لجأ إلى الشعر للتعبير عن مشاعره من الفرح والألم وشوقه. ونحن مخطئون تماماً إذا نظرنا إلى الشعر بحثاً عن إجابات عن ألغاز الحياة وألغاز الفلسفة، وبالتالي تجاهلنا الدين والفلسفة. ومن الحماقة والعبث على حد سواء أن نعين الشعر لمهمة تطوير وتحديث وإصلاح المجتمع البشري. إننا نملك في متناول أيدينا مجموعة متنوعة من العلوم الاجتماعية والطبيعية، وهي أكثر فعالية بألف مرة في التعامل مع هذه القضايا. فالدراسة الموضوعية للتنمية الاقتصادية، على سبيل المثال، أكثر فائدة في العديد من مراحل النمو من قصيدة عرضية عن الأمجاد الضائعة. والخطط العسكرية المخططة جيداً للعمل أكثر فائدة في العديد من الحالات من أكوام القصائد المقاومة التي ينتجها بعض الشعراء بالجملة. «أما أنا فإنني أعتقد أننا لا ينبغي لنا أن نزين الشعر بالمجد الزائف والتحيزات، ولا ينبغي لنا أن نثقله بالقيود والمطالب. فليعبر الشاعر عما يشعر به بأقصى ما يستطيع من صدق وجمال. وقد تكون المشاعر متعلقة بالحب أو السياسة، أو بالمقاومة أو بالهزيمة. فليغني لنا الشاعر بعفوية وصدق عن المعركة، أو عن فرحة لقاء رومانسي؛ فليحتفل بالنصر، أو بعيون طفلة صغيرة مبتسمة. فليكن الشاعر مفكراً عظيماً إذا استطاع، وليكتب عن الشؤون الاجتماعية إذا رغب في ذلك؛ وليهتم بالرموز والأساطير إذا كان ذلك هو ما يريده، ولكننا نريده في كل هذه الحالات أن يكون صادقاً، فلا يخدعنا ولا يخدع نفسه. هذا هو موقفي من الشعر. وربما يكون هذا الرأي في النهاية نابعاً من فشلي بعد سنوات عديدة قضيتها مع الشعر في أن أصبح فيلسوفاً أو مفكراً أو مراسلاً محترفاً للحالة الإنسانية، ومن فشلي في الاستسلام لآراء النقاد. ويبقى الشعراء، مثل بقية البشر، أعداء ما لا يعرفون.