
في زمن تتزاحم فيه الكلمات وتضيع الأصوات وسط ضجيج النشر الرقمي وتقلّبات الأسواق الثقافية، يبقى الناشر الحقيقي هو الحارس الأمين للكلمة، والمغامر الأول في رحلة الفكر من الورق إلى القارئ. وفي المشهد العربي، حيث لم يعد النشر مجرّد مهنة، بل رهان نبيل على الهوية والمعرفة والذوق، تبرز أسماء صنعت الفارق، من بينها منشورات تكوين، التي تحوّلت في زمن وجيز إلى مشروع ثقافي يؤمن بقيمة الأدب، وعمق الفكر، وجمال اللغة. واليوم، ونحن نلتقي محمد العتابي، الشريك المؤسس لمنشورات تكوين، بعد فوزها المستحق بـ جائزة الناشرين العرب لعام 2025، لا نتحدّث فقط عن تتويج شخصي، بل عن انتصار لرؤية ناضجة في عالم النشر... رؤية تراهن على الجودة لا الكم، على القارئ الواعي لا المتلقي العابر، وعلى الكتاب كجسر للتلاقي لا كسلعة تجارية عابرة. كان لنا هذا الحوار مع الشاعر والسيناريست محمد العتابي، لنتعرف على تفاصيل تجربته، ونكشف ما تحمله الجائزة من رمزية، وكيف يرى واقع النشر العربي اليوم، بتحدياته وآماله وآفاقه. * تهانينا على فوز منشورات تكوبن بجائزة الناشرين العرب لعام 2025، ماذا يمثل لكم هذا التتويج؟ أشكركم على هذه التهنئة الكريمة. هذا التتويج يُشكّل دفعة معنوية كبيرة لنا لمواصلة العمل والانشغال الجاد بما نؤمن به. بطبيعة الحال، لا تعني الجوائز بالضرورة أننا الأفضل، لكنها تمنحنا حافزًا مضاعفًا للاستمرار والبذل والاجتهاد. وهذا، في رأيي، هو جوهر ديناميكية الجوائز: أن تضيء الطريق وتذكّرنا بقيمة ما نفعله. * ما العوامل التي تعتقد أنها ساهمت في حصولكم على هذه الجائزة؟ كيف يمكن أن تؤثر هذه الجائزة على مسار الدار في المستقبل؟ أعتقد أن كل لجنة تمنح الجوائز تعتمد على معايير محددة وواضحة. مما اطلعت عليه، فإن من بين هذه المعايير تنوّع إصدارات الدار، وأهميتها بالنسبة للقارئ العربي، ومدى انخراط الدار في الجانب التكنولوجي، أي توفر الإصدارات على المنصات الإلكترونية والصوتية. كما يُؤخذ بعين الاعتبار الجانب الفني، من حيث تصميم الأغلفة والإخراج الداخلي للكتب. وفي منشورات تكوين، أعتقد أن تنوع سلاسل إصداراتنا كان له أثر مباشر في نيل هذه الجائزة، وهو ما نعدّه ثمرة عمل متواصل على مدى سبع سنوات، ونحن سعداء بهذا التقدير الذي يعكس جزءًا من جهدنا. * ما هي الدوافع التي قادتك لتأسيس “مكتبة ومنشورات تكوين” في عام 2016؟ ما هي أبرز التحديات التي واجهتها “تكوين” في بداياتها؟ وما هي الرؤية التي تسعى “تكوين” لتحقيقها في مجال النشر والثقافة؟ منشورات تكوين هو مشروع مشترك بيني وبين الكاتبة الكويتية بثينة العيسى. بدأت الفكرة ببساطة كحساب على مواقع التواصل الاجتماعي، يركّز على الكتابة الإبداعية فقط، ثم تطوّرت تدريجيًا لتُصبح مكتبة، ومنصة للكتابة الإبداعية، وبرنامجًا ثقافيًا، ودار نشر. الهدف الجوهري من هذا المشروع كان، ولا يزال، الإسهام في تغيير المجتمع من خلال القوة النافذة للكلمة والكتاب، ونشر مفاهيم الحرية، وتقبّل الآخر، وتسليط الضوء على الفئات المهمشة والأقل حظًا. * برأيك ما التحديات التي تواجه الناشرين العرب اليوم؟ أعتقد أن واقع النشر في العالم العربي يواجه العديد من التحديات والمصاعب، بعضها يرتبط بالوضع السياسي والاجتماعي المعقد في عدد من الدول العربية، وهو ما يُلقي بظلاله على الحركة الثقافية عمومًا. إلى جانب ذلك، هناك غياب واضح لقوانين داعمة للكتاب، سواء على مستوى التوزيع أو التداول، حيث تُشكّل تكاليف الشحن المرتفعة والإجراءات الجمركية المعقّدة داخل الوطن العربي عائقًا كبيرًا أمام انتقال الكتب وتوفرها للقارئ العربي بسهولة ويسر. * ما رأيك في مستوى إقبال القارئ العربي على الكتب اليوم؟ ما نوع الكتب التي تجد رواجًا أكبر في الوطن العربي؟ أنا لا أؤمن بمقولة ‘أمة اقرأ لا تقرأ’. على العكس، أجد أن هناك إقبالًا حقيقيًا على القراءة في العالم العربي، رغم التحديات المادية والاقتصادية والاجتماعية التي قد تُعيق هذه العملية. ومع ذلك، يبقى القارئ العربي حاضرًا، مهتمًا، ويبحث عن الجديد دومًا. ربما ساهمت كثرة دور النشر في السنوات الأخيرة في تنشيط هذا الحراك، وفتحت أبوابًا أوسع للتنوّع والوصول. أما ما يُقبل عليه الناشر العربي تحديدًا، فمن الصعب حصره، لأن لكل دار نشر جمهورها وقاعدتها الخاصة. فهناك قراء يهتمون بالأدب، وآخرون بالسياسة، بالتاريخ، أو بمجالات متعددة، وهذا التنوّع هو ما يمنح المشهد الثقافي العربي ثراءه الحقيقي. * كيف تقيّم تجربة تسويق الكتاب العربي مقارنة بالدول الغربية؟ وما رأيك في مبادرات دعم القراءة في العالم العربي؟ وهل تجدها كافية؟ لا شك أن التسويق الغربي أكثر تطورًا بكثير من نظيره العربي، ويعود ذلك، مرة أخرى، إلى السياق الاقتصادي العام. فعندما تكون حركة البيع واسعة، والسوق متماسك، وعمليات التزوير محدودة، والوضع المادي مستقر كما هو الحال في العديد من الدول الغربية، يصبح بمقدور دور النشر أن تقدم باقة متنوعة من الخدمات التسويقية، حتى تلك التي تتطلب تكاليف مرتفعة، وهي أدوات يصعب تطبيقها في السوق العربي.” في الغرب، كل دولة تُعدّ سوقًا قائمًا بذاته، بينما يُجبر الناشر العربي على التعامل مع تنوع الأسواق في الدول العربية، رغم وحدة اللغة. فما يجمعه الحرف، تُفرّقه اختلافات الواقع، ما يُحتم على الناشر العربي استخدام أدوات تسويقية مختلفة تتناسب مع طبيعة كل بلد، وهذا يُصعّب المهمة بشكل كبير. أجد أن الهوّة بين التسويق الغربي والعربي واسعة، وشاسعة، ولا يمكن تجاهلها. أما فيما يتعلق بمبادرات القراءة في العالم العربي، فهي جهود محمودة، لكنها بحاجة إلى مزيد من الاتساع، والتنوع، والوصول إلى شرائح أوسع من الجمهور. * ما هي المعايير التي تعتمدونها في اختيار الأعمال للنشر؟ ما الدور الذي يجب أن تلعبه دور النشر في الارتقاء بمستوى الأدب العربي؟ في ما يخص الكتب المترجمة، نحرص على أن تكون ذات قيمة معرفية أو أدبية مضافة، تُخاطب حاجات القارئ الفكرية أو الجمالية. أما في ما يخص الكتب العربية، فنعتمد معيارين أساسيين: جودة الكتابة، ومدى اتساق النص مع الرؤية العامة للدار. تنظم منشورات تكوين إصداراتها ضمن أربع سلاسل واضحة: سلسلة “مرايا”: وتهتم بالسرد، من رواية وقصة ونصوص نثرية. سلسلة “نبوءات”: تعنى بالنصوص الشعرية والنصوص المفتوحة التي تتجاوز الأشكال التقليدية. سلسلة “الكتابة عن الكتابة”: تركّز على الكتابة الإبداعية وأدوات الكتابة وتجارب الكتّاب وتقنيات السرد.سلسلة “تساؤلات”: تُعنى بالفكر، وتتناول موضوعات في تاريخ الحضارات، علم النفس، وعلم الاجتماع. نسعى دومًا إلى التنويع بين هذه السلاسل، واختيار عناوين جديدة وغير مطروقة بشكل كبير، تراهن على الأصالة والجرأة، دون أن تُبالغ في النخبوية أو تنغلق على دائرة ضيّقة من القرّاء. هدفنا أن نحافظ على التوازن بين القيمة والاتساع، بين الجمال والجدوى. * كيف ترى تأثير “تكوين” على القراء والكتّاب في العالم العربي؟ وهل هناك مبادرات أو مشاريع مستقبلية تسعى “تكوين” لتحقيقها لتعزيز هذا التأثير؟ في منشورات تكوين، أعتقد أننا استطعنا أن نُشكّل حالة ثقافية مؤثرة، من خلال استخدامنا الواعي لمواقع التواصل الاجتماعي، ومخاطبتنا للجيل الناشئ والشباب بلغة قريبة منهم، وطرح مضمون يُحاكي تطلعاتهم وأسئلتهم، وهو ما بدأ يُؤتي ثماره تدريجيًا. واحدة من التجارب اللافتة التي اشتغلنا عليها هي دمج العمل الثقافي بالعمل التطوعي، ومن ذلك مشروع ‘ماراثون القراءة الخيري’، الذي يقوم على فكرة بسيطة وفعالة: كل عشر صفحات يتم قراءتها خلال يومين في المكتبة، تُقابلها تبرعات بقيمة دينار كويتي (ما يعادل 3.3 دولار) تُمنح للطلبة المؤثرين، وذلك عبر الجهات الراعية للمشروع. هذه المبادرة ليست فقط محفزًا على القراءة، بل أيضًا تجسيد لفكرة أن الثقافة قادرة على إحداث أثر اجتماعي ملموس. إضافةً إلى ذلك، نحرص على تنشيط المشهد الثقافي عبر تنظيم ما يزيد عن 52 فعالية سنويًا، تُقام كل يوم ثلاثاء، وتشمل طيفًا واسعًا من المواضيع الأدبية والفكرية والفنية، بهدف ترسيخ حضور ثقافي مستدام وتفاعلي. * هل تعتقد أن دور النشر مسؤولة عن توجيه الذائقة الأدبية للقارئ، أم أن الأمر متروك للسوق؟ كيف يمكن تحقيق توازن بين متطلبات السوق والجودة الأدبية؟ أعتقد أن من الصعب تمامًا فصل ذوق القائمين على دور النشر عن طبيعة الإنتاج الذي تقدّمه. فبلا شك، تلعب هذه الأذواق دورًا في توجيه ذائقة القرّاء بشكل أو بآخر. بطبيعة الحال، هناك عوامل أخرى، وتتجاوز حدود النشر ذاته؛ فمثلًا، في فترات معينة، تنتشر موجات من الاهتمام بكتب تنمية الذات أو الصحة النفسية، وقد تكون هذه الظواهر نتيجة لمبادرات تقودها بعض الدور، أو استجابة لموجة عامة تتشكل بفعل السياق الثقافي والاجتماعي حسب الموضوع وحسب الظرف. * ما هي أكبر العقبات التي تواجه الناشرين في إيصال الأدب العربي إلى القارئ العالمي؟ أعتقد أن واحدة من أكبر التحديات التي يواجهها الأدب العربي في السوق العالمية، تكمن في النظرة الاستشراقية التي لا تزال تهيمن على ذهنية كثير من الدور الأجنبية. غالبًا ما يُنتظر من الأدب العربي أن يُشبع فضولًا معينًا أو يلبّي توقعات نمطية مسبقة، كأن يتمحور حول قضايا مثل جرائم الشرف، الطائفية، أو صور المعاناة المألوفة في المخيال الغربي. وهنا تكمن الإشكالية؛ إذ يُراد للكاتب العربي أن يكتب من داخل قالب مرسوم سلفًا، وكأن الغرب لا يريد أن يرى في العالم العربي سوى صورة واحدة، قد تكون حقيقية أو تتقاطع مع الواقع، لكنها بالتأكيد ليست الوحيدة. * ما هي الأعمال الأدبية التي تعمل عليها حاليًا؟ أعمل حاليًا على مجموعة شعرية جديدة، قد ترى النور خلال هذا العام بحسب الظروف. وفي موازاة ذلك، أنشغل بعدّة أعمال في مجال كتابة السيناريو. * كاتبة وصحفية سورية مقيمة في فرنسا