عشر قصائد للشاعر الصيني فـيــــي يــيـفي

صَمْتٌ يُشَيِّعُ الأَشْيَاءَ

فـيـــي يـــيــفي (Fei Yifei)، شاعر صيني معاصر. وباعتباره كثير الأسفار، داوم على كتابة الشعر ليوثّق به مشاهد الطريق وتأملاته في الحياة. وقد نُشرت قصائده في العديد من الصحف والانطولوجيات الشعرية والمنصات الأدبية داخل الصين وخارجها. ومن دواوينه الشعرية: نهري والمشي والحب، إلى جانب مجموعات من النثر والأدب التوثيقي. حاز على عدة جوائز، منها: جائزة الصين السابعة للشعر المعاصر، وجائزة العمل المتميز في النثر الصيني الموجز، وجائزة “أفضل شاعر للعام” 2024. وقد تُرجمت بعض قصائده إلى لغات أجنبية عديدة. وقد تمت الترجمة العربية عن النسخة الإنجليزية التي أنجز ترجمتها البروفيسور شي يونغهاو. مراقبة الغروب الجبل أفضل المواقع للنظر. الشمس تتدنّى غربًا، متمهلةً، تعتمر قبّعةً غسقيةً، تنحني برفقٍ، كثمرةٍ ناضجةٍ على وَشْك السقوط من الغصن. السيل يجري من الوادي، يخرخر في طريقه، غير قادرٍ على إيقاف صنوبرةٍ متعجّلةٍ تتدحرج نزولًا. طائرٌ جبليٌ، يتأبّى على العزلة، يرافق انطفاءة الشفق بأغاريد متقطّعة. الشمس تنأى في نهجها، وتتدنى إلى البحر أكثر فأكثر، إلى شاطئٍ مجهول. ولا ريب، فما من سبيلٍ لتوقع ما سيأتي. — لكنّي أعلم هذا: الحياة أن أُودّع الأشياء، ريثما يقف أحدهم يومًا أمامي يودّعني. أما إلى أين سأذهب في النهاية، فلا جواب عندي بعد. طائر الرفراف * عندما يغطس الرفراف، أكون جالسًا على ضفة البحيرة، والشمس في مغربها، بطريقتها الباهرة، تسجّل انحناءة قوسٍ فاتنٍ. ووميضٌ أزرق يحرّك تموّجًا طفيفًا على سطح البحيرة، ثم كلُّ شيءٍ يتبدد، ليعقبه صمتٌ خانق. أحبس أنفاسي، كأنّي أتمكث انفجارًا تحت الماء. كم يدهشني هذا الريش البهيج إذ يكتنف قلبًا آبدًا، والكائنات، حتى أصغرها، تجسد قانون الغاب. لكنّ ما يجري بعدئذٍ يبغتني أكثر، بأبعد مما تكهنت عن هذا الطير الكاسر، فعلى حين غرةٍ ينبجس من الماء، إلى قمّة الشجرة، لينفض عن ريشه القطرات، ويُطعم فريسته لرفرافٍ آخر. * الرفراف أو صياد السمك؛ طائر ذو ألوان زاهية يتميز بمهارته الفائقة في صيد الأسماك من المسطحات المائية. قلق وقتما تتبدى الباحة كاملةً في سكينتها والنباتات جميعها في ائتلافٍ، والعصافير بعذوبةٍ تغرّد فربما يرشح إليك القلق فتتفكّر: لا بدّ من شدةٍ ما، خصامٍ ما لِمَ لا نزرع بعض الورد أو الزهور الشائكة؟ ورود “البانسيا” صلبةٌ في جوهرها، هي الفاتحة المظفّرة لهذا المكان، عنفوانها لا ينضب، لا قوانين تحكمها، تنمو بجموحٍ قبالة الريح وبجودٍ من المطر، يكتظ الموضع، بعد طول طمأنينةٍ، بأشواكٍ تلوّح مهددةً في عتوٍ، في شططٍ حرونٍ واندفاع. الوحشية صفة ساحة الحرب هذه، ومع ذلك يتراقص النحل فيها والفراشات بخبالٍ لا يحد. وحين تقف بينها، يتأجج شيءٌ بداخلك، حتى لتتخيّل أنك واحدًا منها. لأن تلك هي الحياة— الوفرة الحقّة تتطلب بعض الفوضى، والحبّ العظيم حقًا يستوجب المقايضة بين التملك والألم. الغرنوق الأبيض لا غير هذا البياض كفيلٌ بكشف نقاء الأرض في صلبها. عائدًا من ترحاله، يرى الأرض العتيقة على حالها، ما خلا تشبثها المتهالك وقد غدا أوهن مما كان لعامٍ مضى. تنبسط أفكاره، رهيفةً وقصيةً، كنبتة شيحٍ بريٍّ تتمدّد. واقفًا وحده على شفًا من الماء، كأنه عالِمٌ من زمنٍ سحيق، يتأمّل قائمة الشرف للناجحين في الاختبارات الإمبراطورية، ثم يغرق في عزلة الفشل التي لا تنتهي. يرفع قدمًا، إذ لا يرى في هذا العالم الفسيح موضعًا نقيًّا بما يكفي ليضع كلتا قدميه لكنه ها هنا يجد ناحيةً فضلى ليغرّد حين الفجر أو حين الغسق، مستدعيًا هطول الثلج الكثيف وبالقدم الأخرى، يشد الأرض المائلة وثيقًا بخطايانا. الآن، أبدأ في حبِّ نفسي لطالما أرغمت نفسي على حبّ العالم، مخافة أن هذا الحبّ القنوط، إن غاب، قد يجعل العالم — وهو ليس معطاءً بأية حال يتجاهلني، أو يراني على نحوٍ مختلف والآن، أبدأ في حبّ نفسي، لأنّي تبيّنت أخيرًا أنّي لم أعد أملك ما يكفي لأحبّ هذا العالم. فحبّي محدود، وعليّ أن أخصّه بشيءٍ أكثر يسرًا أو لأقلها واضحةً: إن لم أُحبّ نفسي، فلن أستطيع أن أحبّ هذا العالم أيضًا. انطباعٌ عن زهرة دوّار شمسٍ ذابلةٍ رياح الخريف في وجومها تلطم وتحطّم، تجرف معها فصلًا بأكمله. وتحت السماء المتنائية، تغوص الأرض في جدبٍ سحيق. وعلى جانب الطريق، تقف زهرة دوّار شمسٍ ذابلة، نحيلةً، شموسةً، متشامخة. أيُّ مزارع هذا الذي يحمل شعرية الرؤى ليصنع هذه العزلة اللافتة، التي تتحدّى قدوم الشتاء؟ هذه القامة الماثلة تحمل روح الشمس، تذكّرنا كيف أن أمتنا وقفت يومًا، في خضم قحطٍ مثل هذا. أشياءٌ قديمةٌ حين تنحسر أمواج الزمن، تترك خلفها أشياء قديمةً، آفلٌ ألقها، كأصدافٍ مغلقة الأعين، مستكينةٍ على الشاطئ. بمشاعر مختلطةٍ، أجمعها معًا— أُرشّد المكان، وأستبقيها كنوزًا أيضًا. غير أنني، بين حينٍ وآخر، أسمع طنينًا خافتًا ينبعث منها، ذاك الماضي الفريد، لا يُنسى، ولا يُستبدل. ألتقط شيئًا، وأحقق النظر فيه، فأستعيد الأيام البعيدة ودفأها— حتى لحظات التيه والقلق، ما إن تمضي، حتى تبدأ في كشف مغزاها العميق. تراني أكتنز هذه الرموز وتذكارها، لأترك أثرًا لخطوي وأنا أعبر هذا الوجود. جالسًا وحدي على جبل تاي ها أنا ذا، جالسٌ على الجبل، بين حجارةٍ واجمةٍ، طوال المساء، بلا حركةٍ، كأنّي أزيد من وطأة هذا الطقس المهيب. القمة المقابلة، الغيوم في الأعالي، الصقر الحوّام— لا شكّ أنّها تخال أنني حجرٌ مستجدٌ قد وصل للتو. ولو بقيت هكذا لأمسياتٍ لا تُعد، لربّما صرتُ بالفعل حجرًا نفيسًا من حجارة جبل تاي. يا له من أمرٍ رائع— أن أضمّ في حضني الأنهار والبلاد، جنوبًا وشمالًا، وأن أشيخ جنبًا إلى جنب مع الزمن. لكن، كيف لي أن أتجاهل تفتّح زهرةٍ فجائيةٍ في الصدع القريب؟ ها أنا ذا أدير رأسي جانبًا، أرمقها بطارف النظر. على عتبة البوذية ذات ظهيرةٍ، مضيت إلى جبل بوتو، لأسأل المعلم كيف تُعبر عتبة المعبد. تحدّث المعلم مطولًا، إنما بتبحرٍ لا أبلغ قراره، لم أجترئ على مقاطعته، تعاليمه أشبه ما تكون بالفلسفة. الشاي من يده كان مرًّا قليلًا، لكنّي تظاهرتُ بأنّ لي ميلًا للأشربة المتواضعة، مرتشفًا حتى تلاشت المرارة، عساه يرى لي بالبوذية صِلة. وعند العتبة، أعدت سؤالي، جلــيًا: يا معلّم، أيّ قدمٍ أخطو بها أولًا— اليُسرى أم اليُمنى؟ قطٌّ عابرٌ في موضعٍ من المدينة، قطٌ شاردٌ يتمشى تحت المطر، على مهلٍ، يجوب حديقة الشارع كأنّه يذرع الأرض في باحة داره هيئته بشريّةٌ تمامًا ومطمئنّة. المطر يبلّل قوائمه، يتوقّف للحظة، يرفع مخلبًا ويهزّه، كمن ينفض الماء عن حذائه. حركته— بشريّةٌ تمامًا، ومرهفة الأحاسيس. يشتدّ المطر، وتظلم السماء. إلى أين يمضي؟ يرفع رأسه، يتأمّل السماء بتفكر، وعلى وجهه تعبيرٌ — بشريٌّ تمامًا، وغارقٌ في الوحدة.