قصتان قصيرتان.

(1) وطن كاملة بشعرها المفلفل بضفيرتين قصيرتين، وبشرة حنطيّة مصقولة بشمس تهامة، تسير بحذاء بلاستيكي يسقط من القدم أحيانًا. اقتربت العائلةُ المهاجرةُ من السيارة التي تتزود بالبنزين، وقفت بجسدها الصغير، راقبتْ أمّها حتى انتهتْ من شرح الحالة! لم أغفَل عن وجهها القريب، الوجهِ الذي يكاد أن يختفي خجلًا أو حزنًا لولا أنْ استبقته البراءةُ آيةَ جمالٍ ذابل. ناولتُ أمّها منديلًا كي تعتني بوجه الرضيعة المسنودة على جذعها المتعَب، مسحت الأمُّ ما سال من وجه طفلتها، فطار ذباب ساحلي كاد أن يستوطن أنف الصغيرة، أخذَت المرأةُ “الميسور” في صمت، وغادرتْ شاكرة، ظلّت الفتاة تراقب المشهد، أعطيتُها علبةَ المنديل كاملة، فكانت ابتسامتُها أكثر بياضًا من منديل يعبر بين الأيادي والنظرات. سألتُها عن اسمها، ردّت: كاملة. استولى الاسمُ على الكثير من الكلمات التالية، ونبَتَ صمتٌ مُبَعثرُ المعنى، شعرتُ معه أن وجهَها الصغير، وجرمها الضعيف أقوى من أوزار الغربة! بعمر يقارب الخمسَ سنوات، تبدو كاملةَ العناء: بسَيْرٍ في النهار الصاهد اكتواءٍ بركض السواحل جلوسٍ تحت ظلّ محطات الوقود انتظارِ القليل من المال الذي يجود به العابرون.. وبابتسامةٍ ذابلة المعنى مرهونة في تعابير الامتنان لرشفة ماء، أهدتني نظرة حائرة قبل أن تغادر، شكرتها بقلبي، و نصبتُ ابتسامتي لأجل: كاملة العناء ناقصة الطفولة -من أين يا كاملة ؟ التحقتْ بأمّها سريعًا ، وهي تردّد: من الترحيل من الترحيل! الوجهِ الذي لوّحته شموسُ الرحيل وإن ظل خجولًا وبريئًا. (2) حين توارى اقترب من سيارة فارهة كتلك التي تزور الناسَ البسطاء في أحلام اليقظة، انتظر انفراجَ الزجاج، مدّ يدَه وفي شفتيه عبارة أو عبارتان تشبهان الدعاء بالخير. في الثواني القليلة التالية توارى الكلام، وأنصتت الكفُّ الممدودة انتظارًا، اطمأنّ والرجل يبحث بين أشيائه باهتمام، ها هو يشدّ بإصبعيه على بضعة قروش، وحين قبضَ الفتى عليها بحرص، بانت الغربةُ كتلةً غامضة، وبدا التعبُ مرتهنًا إلى نظرات صافية في عينيه، حاول الرجلُ تبديد ما أمكن: - ما اسمك؟ - ..... -تدرس؟ -لا. رآه يستحق الصف الخامس أو السادس، فأخرج له ورقة حمراء، برقت عينا الصبيّ، ودوّت في قلبه أفراحُ أسرته حين يعود إلى البيت، أما العودة إلى الوطن، فقرار الأب وحسب الأخبار وراء الشاشة. لا زال واقفًا يأسره العجزُ عن شكر صاحب السيارة الذي فاجأه: - هذي بشرط؟ - ما هو يا عمّ؟ - تدرس! - كيف؟ - أليس مسموحًا (لكم) بالدراسة؟ - كنت أدرس عندكم هنا في الحي. - الشرط ... كلّم الوالد يعيدك إلى المدرسة. وعده محرجًا بـ: “حاضر”، ومازال منتشيًا بالورقة الكبيرة التي تشبه كلَّ الفرح. بعد أسبوع، رآه صباحًا في المكان عينه، عليه الثياب ذاتها، اختفى سريعًا وراء سيارة قريبة. هكذا الصغار، تخذلهم الوعودُ التي يقطعونها، سيكبرون على أيّة حال، وستختبرهم الحياة ويختبرونها مرّات ومرّات. طال اختباؤه، فأحبُّ الرجلُ صدقَه، وفي هذه المرّة، نزل من سيارته، وذهب إليه بنفسه.