
امتلأت ذاكرته بأحداث لزجة، متداخلة، لها وخز المسامير، بدءًا من قرصات الجوع التي يعانيها لأيام طويلة حين يُطرد من عملٍ ما، وليالي الأرق المهلكة التي تلتفّ حول عنقه حينما يحاول البحث عن حلٍّ لنكبته الفادحة، وتلك الحدِّة الخائفة التي تقذفها به ملامحُ الناس حين يهمُّ بمجاورتهم على كراسي الحدائق وصوالين الحلاقة وطوابير المحلات وصفوف المساجد. أينما حل كان وجودُه يُشتت اِلتمام الشمل مُباشرة حتى أُطلق عليه لقب “ديناميت الشيطان”، لم يتقبله أحد بالخارج سوى أصحاب الحوانيت حينما يريهم من بعيد أنه يملك بعض الأوراق النقدية. أخبرته جدته العمياء التي يعيش معها الآن أن تلك الزوائد اللحمية المتقيحة التي تُطرّزُ وجهه من الأذن إلى الأذن كان سببها وحامًا قديمًا مرّت به أمه في أثناء حملها به؛ فقد اشتهت عنبًا في غير موسمه وحذرتها نسوة القرية من مغبّة حَكِّ الوجه خلال أسابيع الوحام، فسجنت وجهها خلف نقاب سميك، وحشرت يديها في قفازات غليظة، ولمّا اشتدت عليها شهوةُ العنب المفقود ذات يوم، ثارت الحكة في جلد الأم وهي تغسل نقابها في الطشت، ولم تفطن أنها تهرش وجهها إلّا عندما فات الحذر ووقع المحظور، بعدها بشهور ماتت مغسولةً بعرقها البارد في اللحظة التي تمكن حوضها المكسور أخيرًا من إخراج كيس المشيمة الذي خرج دبقًا ومجعّدًا ومثقوبًا كالبطيخة المفجورة، صاح أحدهم بأن هناك شيئًا يرتعش بداخل المشيمة، ولم يتجرأ أحد على أن يؤذن في أذن المولود الذي طالعهم بوجه أزرق مُتفتقٍ بالخوف، ومشوّهٍ بخراريج وبثور عملاقة على هيئة عناقيد عنب سائحة، حتى إنهم لم يقطعوا حبل سرته الذي جفَّ وتدلى بين ساقيه كذيل الوزغة إلّا بعد مرور عشرة أيام، ولم تقربْ موسُ الختان موضعَ رجولته حتى هذا اليوم، ولم يقطر في حلقه حليبُ امرأة قط، على أن قريته كانت تعج بالمرضعات المحسنات اللاتي كن يتسابقن لإرضاع المواليد اليتامى ويرفضن أن يقبضن أي ثمن. ظل يتنازعه شعوران يتصادمان في قلبه بعنف مثل الرعود: الحنين إلى وجه أمه التي لا يعرفها حين يمتطي الخوفُ كرامته، والضغينة المتأججة تجاهها؛ لأنها أورثته هذا الوجه المشوه وقذفت به في حلق الحياة وحيدًا يحمل عناقيد عنبها الفاسد في وجنتيه. شكا الى الله مرةً في سجوده أن الخروج إلى الحياة بهذا الوجه الممسوخ حِملٌ تخرُّ له الجبال، وحين آنسَ الخواء قطع الرجاء وأطال شعره الناعم وأسدل خصلاته الطويلة على مواضع العطب التي تحتل جوانب وجهه، وتقاطر الناس يرشقونه بحرف “الميم المُشين” وأخذوا يقذفونه بالملابس النسائية الممزقة وبالأحذية والنفايات وحفاضات الأطفال الملوثة، بينما هو محتار في ماهية الشعور الذي يتوجب عليه أن يتحصن وراءه لكي يصد من عدوانهم شيئًا، فمخزون الدموع الذي يستمر عادةً مع الإنسان إلى آخر حياته قد استنزفه بالكامل في طفولته، وجرّب أن يثور عليهم مرة فتناوبوا عليه تهشيمًا بالعصي حتى سقط في دمائه، وحين ابتلعه اليأسُ أخيرًا، تفجّر الضحك الهستيري من حلقه فجأة وأخذ يقهقه على منظر الفتاة البشعة الذي يختبئ وراءه، وجعل يخلع على نفسه أشنع الألقاب المضحكة والغارقة في السخرية الكاوية وهو يلطم خده، وانطلق يقفز مثل قرد السيرك ويصنع بأصابعه قرونًا شيطانية في مؤخر رأسه وينبح مثل كلب، وسرعان ما استولت عليه الدهشة حينما رآهم قد احتموا بالصمت للحظات ثم عاودوا الضحك الشامت دونما حماسة. لقد وجد أن الاستهزاء معهم على نفسه قد سمح بنشوء نوع من التقارب الخفي، واكتشف، في عدم تصديق، أن مشاركة الناس الضحكَ الرخيص والسخرية الخبيثة، ولو على حساب الوجع الذي يعانيه هذا الشخص، هي أفضل الحلول التي تخفّف من استفحال الشر الذي يندلع من قلوبهم.