من إرجاء المعنى إلى توليده:

سيولة النص بين التفكيك واللامركزية والذكاء الاصطناعي.

حدثت تحولات معرفية واقتصادية وفلسفية كبرى في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين الأمر الذي جعل المفكرين والأدباء يعبرون عن الفهم الإنساني للعالم ولمفاهيمه الأساسية بطريقة مغايرة، ومن أبرزها مفهوم “المعنى”؛ الأمر الذي جعل التفكيكية التي بلورها جاك دريدا في ستينيات القرن الماضي تقدم قراءة نقدية جذرية لمفهوم الثبات في النص والمعنى. أي كل معنى مؤجل ومتغاير. أما في النظام الاقتصادي فقد ظهرت رؤية اقتصادية قائمة على اللامركزية التي أفرزت عملة البتكوين، وهذا النظام جاء ليعيد صياغة فكرة النظرة الاقتصادية المركزية، مشككًا في ثباتها واستقرارها. أما تقنيًا فقد مثّل الذكاء الاصطناعي المعتمد على التوليد والتحليل عبر النماذج اللغوية الحديثة قفزة هائلة؛ مما جعل المعنى لا يُنتج وفق منظومة ثابتة أو مغلقة، بل بات نتاجًا لتفاعلات حية ومتغيرة. بالتالي أعتقد أن مناقشة هذه العلاقة الجدلية ليست مجرد ترف فكري، بل ضرورة لفهم مآلات الفكر الإنساني المعاصر في ظل تقاطع الثورة التقنية، والتحولات الاقتصادية، والانقلابات الفلسفية. بالتالي أطرح فرضية جدلية عن احتمالية حدوث تحولات في النظرية النقدية المعاصرة نتيجة ارتباط هذه العوالم الثلاثة حول مفهوم “المعنى” والهويات المتحولة للنظام الرمزي والاقتصادي. ولكي نفهم احتمالية التحولات ينبغي سبر أغوار المعنى من الزوايا الثلاثة. أولًا: ظهرت التفكيكية عند دريدا؛ من أجل تحطيم المنظومات الفكرية التي كانت تفترض وجود معانٍ جوهرية ثابتة ومتعالية على النصوص والظواهر. وهذه الرؤية الفلسفية ظهرت في سياق فلسفي مشبع بتيارات البنيوية والحداثة التي ترى أن النص يحيل إلى معنى واحد، ولكن دريدا رفض مركزية المعنى والميتافيزيقا الغربية التي سادت منذ أفلاطون وحتى البنيوية؛ مما جعله يطرح فكرة أن اللغة لا تحيل إلى معنى ثابت يمكن الإمساك به، بل إلى سلسلة لا نهائية من الإحالات المرجئة. أي لا وجود لأصل متعالٍ أو دلالة أخيرة نهائية؛ وثم يصبح كل نص فضاء للانزلاق الدلالي والتباين الداخلي لأن كل كلمة تؤجل معناها إلى أخرى أي يتميز الخطاب بـ “الاختلاف” (differance). هذه الديناميكية تجعل المعنى دومًا في حالة “تولد” مستمر، محكوم بالسياق، ومتعدد بتعدد القراءات الممكنة. ثانيًا: في مطلع القرن الحادي والعشرين، وفي الحقل الاقتصادي مثّلت اللامركزية تحديًا عميقًا للنظام المالي التقليدي القائم على المركزية للبنوك، وهذا التحدي ظهر نتيجة ابتكار البتكوين عام 2009 على يد شخصية مجهولة الهوية تُدعى ساتوشي ناكاموتو. مفهوم “اللامركزية” في هذا النظام الاقتصادي الناشئ قائم على توثيق المعاملات عبر شبكة موزعة (Blockchain)، غير مرتبطة بكيان واحد. بالتالي تصبح اللامركزية ليست سمة تقنية، بل هي موقف اقتصادي فلسفي - مضمر - من فكرة الثبات المؤسسي، وهذه الرؤية الاقتصادية تسعى إلى تحقيق نموذج اقتصادي يقوم على الديناميكية والتوزع، لا على التمركز والثبات. أي تختفي فكرة “الثبات” الاقتصادي المرتبطة بسيطرة البنوك، ليحل محلها منطق التداول الحر والديناميكي للثقة والقيمة. ثالثًا: الذكاء الاصطناعي التوليدي قائم على التوليد من النماذج اللغوية الكبيرة؛ من أجل تقديم خطاب متميز لغويًا ومعرفيًّا. هذه النماذج لا تعتمد على القواعد الترميزية التقليدية التي تحدد النتائج مسبقًا. بل يبني الذكاء الاصطناعي استجاباته من خلال التفاعل الدينامكي مع عدد هائل من البيانات؛ مما ينتج عنه معانٍ جديدة في كل مرة يحدث فيها التفاعل. أي الذكاء الاصطناعي التوليدي لا ينقل معلومة إليك، وإنما يقوم بتوليد معنىً متغيرًا يتكيف مع السياق لأن هذه التقنية تستخدم آليات التعلم العميق والمحاكاة الإبداعية؛ مما يجعلنا نرى إن المعنى لم يعد انعكاسًا لمصدر ثابت، وإنما أصبح المعنى نتيجة لعملية انتاجية متغيرة ومستمرة تخضع للاختلاف، والتحول، والانفتاح الدائم على المستقبل. إن فهم العلاقة بين هذه المجالات الثلاثة ليس مجرد مقارنة سطحية، وإنما محاولة لرصد كيفية تشكل عصر جديد يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية للمعنى، عصر يتميز بالسيولة، اللامركزية، والتوليد المستمر للواقع ذاته؛ بالتالي نحن بحاجة ملحة إلى بناء أدوات نقدية جديدة تستطيع سبر أغوار الخطاب وفق تحولاته المعرفية والحضارية في ضوء ما بعد الحداثة وما بعد الميتافيزيقا لأن هذا الخطاب يحمل معنى يقوم على مبدأين أساسيين. أولًا، اللامركزية التي تسعى إلى الإطاحة بالمركز الثابت لصالح فضاء مفتوح تتوزع فيه السلطة والقرار بين أطراف متعددة. ثانيًا، التوليدية الديناميكية التي جعلت المعنى ليس معطى ناجزًا، بل أصبح نتاجًا لعملية دائمة من التفاعل والاختلاف؛ مما يجعل كل عملية إنتاج رمزي أو اقتصادي أو معرفي محكومة بالتحول المستمر، وعدم الثبات والاستقرار. إن هذه الجدلية حول المعنى تكشف أهمية إعادة النظر في طبيعة الفعل الإنساني ذاته بسبب إن المعنى الاقتصادي أصبح عملية متحولة دائمة. كما إن الخطاب يحمل معنى مختلف بشكل مستمر لأنه منبثق من عملية توليدية غير متناهية. أي أصبح الإنسان المعاصر يعيش داخل علاقات مفتوحة ليست مركزية؛ مما جعله يفقد احتمالية التعلق بثوابت معرفية أو لغوية. بالتالي فإن الفهم الجديد للمعنى وفق شروطه المعرفية الحضارية يتجاوز الإطار الفلسفي التقليدي ليصبح مفتاحًا لقراءة تحولات العالم الرقمي والاقتصادي. هذا التحول الذي بدأ مع دريدا بوصفه نقدًا لغويًا للمركزية، تحول اليوم إلى ظاهرة كلية تمس جميع البنى الإنسانية: من النص إلى الاقتصاد، ومن الفكر إلى التكنولوجيا. أصبح المعنى وفق هذا التحول الذي يجمع اللغة، الاقتصاد، التقنية يسبح في نسق مفتوح يتشكل عبر شبكة من العلاقات لا نقطة مرجعية مغلقة لها. أي أصبح المعنى معطًى وجودي أكثر منه معطًى معرفي لأننا لا نسعى إلى الكشف عن معنىً كان هناك. بل نحن نخلق المعنى عبر أفعالنا التواصلية والتقنية والاقتصادية؛ بالتالي أصبحت غاية المعنى الخطاب من الكتابة أو التعاملات الاقتصادية أو الذكاء الاصطناعي ليست إيصال المعنى لأن المعنى أصبح ناتج جانبي inevitable عن كل تفاعل ولحظة تواصلية. وهذا المعنى يمكن وسمه بالخصائص التالية: أولًا: اللامركزية أي المعنى ينتج بسبب علاقة تفاعلية وليس من مصدر محدد سواء الأديب أو السطلة المركزية (كالثقافة العربية). ثانيًا: التوليدية أي في كل لحظة توليدية تحمل إلينا معنى جديد؛ مما يجعله يفتقد النهاية المغلقة لعملية التوليدية ذاتها. ثالثًا: الاحتمالية التي تجعل المعنى لا يقدم يقينًا أو نهائية، بل يقوم على احتمالات متعددة متشابكة. رابعًا: السياقية أي كل معنى مشروط بسياقه، ولا معنى خارج السياق أو فوقه. خامسًا: الاختلاف الدائم أي المعنى غير مستقر؛ مما يجعله يتغير ويتأجل في عملية لا نهائية من الإرجاء (differance). وهذا ما يدفعنا إلى إعادة التفكير في المفاهيم الإنسانية التقليدية عن الحقيقة، والهوية. ففي عصر الذكاء الاصطناعي والاقتصاد اللامركزي، لم يعد السؤال المطروح هو: “ما هو المعنى الحقيقي؟”، بل أصبح: “كيف يتولد المعنى؟”، و”كيف نشارك في إنتاجه؟”. ومع هذه التحولات، أصبح تطوير أدوات نقدية جديدة ضرورة ملحة؛ من أجل مقاربة هذه السيولة الفكرية والاقتصادية، وهذه الأدوات ينبغي أن تتجاوز الأنماط التقليدية للمعرفة وتؤسس لقراءة نقدية تأخذ بعين الاعتبار اللامركزية، التوليدية، والاختلاف بوصفها مبادئ تأسيسية للفهم المعاصر. ولكن يظل السؤال مفتوحًا: كيف يمكن للإنسان، في عالم بلا مركز، أن يخلق مواضع جديدة للثقة والمعنى والهوية دون السقوط في فوضى نسبية مطلقة؟ *أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية المشارك بجامعة الجوف mlshammari@ju.edu.sa