تحولات صورة الطبيعة في الأدب الإنساني.

كانت الطبيعة سرا لم يفكك، ولغة الوجد الأولى، حين كانت الخليقة تسبح في الوجود. لم تفهم الطبيعة في البدء إلا مع خلق الكلام حولها، حين تخيل الإنسان قصة الخلق. ومع تطور الوعي الأدبي ونمو الشعور بالنظرة والاستحضار ظهرت الانطباعية النامية والمخلوقة التي تنمو في شكل مقدس من تجسد الطبيعة والبيئة المحكية. تطورت نظرة الإنسان الشعورية للطبيعة من كونها خلفية صامتة الى اعتبارها كائناً حياً يتنفس، يغضب, يفرح، ويُخيف. فأصبحت الطبيعة ليست فقط وصفاً خارجياً، بل طرفاً درامياً فاعلاً في سردية شكل الكون، وتحولت الى مرآة لحالات الانسان الداخلية. صار كل وصف طبيعي بيئي لغة نفسية خفية في مخيلة الإنسان الأولى، حين تلمس وجوده بين الرمل والريح، وبين الأبدية كشكل للجنة، وبين الفناء على الأرض كصخرة او نهر. كانت الطبيعة هي الأم الكبرى والنص الإلهي الأول. لم يكن الفرق واضحاً بعد بين روح الإنسان وروح الأشجار، إذ لم تكن الطبيعة مجرد مكان، بل كانت وحيًا أولياً وترنيمة ولادة. تُعدّ الطبيعة والبيئة موضوعين تقليديين وجوهريين، لهما تاريخ ممتد كشكل من أشكال الحوار والتساؤلات والبحث الذي شكل محور الاستحضار الطليعي وما ورا الطبيعة ذاتها في الأدب والشعر وحتى العلوم. تحرص الأمم السابقة والحديثة على تشكيل بيوغرافيتها الإثنية من مفهوم الطبيعة والبيئة، وتستحضر فيها السرديات الحياة النباتية والحيوانية والطقس. وغالبا ما تصور هذه العناصر من العالم الطبيعي على أنها مخلوق نابض بالحياة، تتداخل فيها أوصاف للعالم المادي. الكتابة عن الطبيعة تعرف بالعنصر الشخصي، أي تصفية التجربة من خلال حساسية الفرد واستجاباته العاطفية، الروحية والنفسية لها. ويستمر الأدب المتعلق بالطبيعة والبيئة في تسجيل العلاقات المتبادلة الموجودة بين الخارجي والداخلي والمادي والميتافيزيقي مما يوفر سجلاَ لما يراه المرء والذات وفعل الرؤية. يُعتبر وصف “البيئي” مصطلحًا أشمل من “الطبيعة” عند تطبيقه على الأدب، فهو يُبرز العلاقة بين الحياة البشرية وغير البشرية بجميع تجسيداتها، وهي فكرة تدعمها الاكتشافات الذاتية حول الترابط بين جميع الكائنات الحية. كما يشمل المصطلح الكتابة عن البيئات ما قبل الخلق والبدائية، ثم الريفية والحضرية على حد سواء، ويشجع على عدم اعتبار “الثقافة” و”الطبيعة” مصطلحين متنافيين.. في المؤرخات المسيحية الأولى خُطت رؤية ملائكية للعالم بطبيعته البيئية، حيث كان كل مخلوق من أصغر قطرة ماء إلى أضخم جبل هو جزء من الجوقة الإلهية التي تسبح للخالق بلا توقف. في “أنشودة الخلق” الشهيرة المنسوبة للقديس فرنسيس الأسيزي، تُخاطَب الشمس كأخ، والقمر كأخت، والماء كأم طاهرة؛ كل جزء من الطبيعة كان يُرى ككائن واعٍ يمارس دوره العبادي بلغة صامتة , في هذه الرؤية، الطبيعة لم تكن مجرد مادة , بل كانت كلمة متجسدة , وصلاة مرئية تمشي على الأرض، تقرب ما تحن له الروح كجماليات للسكينة. في التصورات الأدبية الأولى بعد السقوط ،خصوصًا في الأدب المسيحي الوسيط، أصبح الحديث عن الطبيعة مقرونًا بـالحنين إلى الفردوس المفقود , حيث الأشجار لم تعد مجرد كائنات حية، بل شواهد مكسورة على عهد قديم مع الخالق تم خيانته. النسيم صار أنينًا، والمطر صار دموعًا مقدسة، والغروب صار بكاءً سرمديًا على فراق النور الأول. كل وصف طبيعي في الأدب الديني كان يرمز إلى محاولة الإنسان أن يتذكر مكانه الأصلي، الحديقة التي طُرد منها والسماء التي يحاول العودة إليها. تعد الرمزيات عالم متشكل للطبيعة والبيئة، حيث تُعطى أبعاداً متعددة أكبر من احتمالاتها أو شكلها. كانت القصائد الشعرية الأولية للخلق تنمو في حقيقتها في هذا الحقل الطبيعي، في الشعر القديم والأدبيات الدينية المبكرة، (.....) ولم تبتعد الصوفية في الإسلام عن هذا التشكيل في العشق الإلهي والبدايات والنهايات وأصل (النور) وقيمة الفرد.. , فأصبحت الطبيعة في الأدب الديني جسداً للمعاناة والرجاء والخلاص. لم يكن الإنسان ينظر للطبيعة كأشياء منفصلة عنه، بل كانت امتدادا لروحه، وكل جزء من الطبيعة والبيئة هو علامة حية على سر أكبر من وجوده نفسه. وهو خلق جاذب في تشكيل الأدب عبر الحضارات، ونرى هذا التشكيل أحياناً يأخذ شكلاً مفتوحاً في الأدب البيزنطي واللاتيني تحديداً، نظراً للبيئة الخصبة المزدوجة، حيث كانت الطبيعة تعتبر نصاً مفتوحاً لا يحتاج الى ترجمة، بل شعورا. ولم تكن أيضاً تمثل الأحداث في النصوص، بل كانت نصوصا مشفرة تستخدم لفهم سير هذه الطبيعة، حيث كل وصف طبيعي هو مجاز لسير رحلة الإنسان مع الطبيعة. وكأنها استعادة لذاكرة مفقودة من الفردوس الحقيقي لشكل الطبيعة، فيرتبط بلعبة الحنين المشفرة، بالمكان الذي كانت فيه الشجرة تغني، والريح تضحك، والنهر يبكي بالحب. وهي تصورات يحاول الإنسان من خلالها استرجاع الوطن الذي نُفي منه، وكان تجسده أيضاً إعادة إحياء الطبيعة بلغة جديدة. في العصور الحديثة، أصبح التعامل مع الطبيعة كمشهد وجودي وصفي أكثر تعقيدا. لم تعد الطبيعة تشبه موطن الحلم او الأسطورة، بل أصبحت شاهدة على وحدة الإنسان في ظل النمو الصناعي الموجه بترتيب معين ومعلب , مما ينمي الغربة في وجود طبيعة ليست خامة. عالم لم يعد الانسان يعرف كيف ينتمي اليه، مع تضاد روحه وحنينها لشيء حقيقي. تحولت نظرة الإنسان الى الطبيعة من رؤية شاعرية وأسطورية الى علاقة معقدة أشبه بالمرض، تعكس في جوهرها تصدع الروح البشرية وغربتها المتزايدة عن العالم الحميمي. ومع تطور العالم، ومع الحروب والمآسي الحديثة تبدلت علاقة الانسان بالطبيعة، حيث يصعب رؤية مكان حقيقي يشبه البدايات. وأصبحت الطبيعة شاهدا مأساويا على فشل الإنسان في صون طبيعته وبيئته. ويتناول الأدب المعاصر فكرة ظلامية باردة ومنتهية لشكل الطبيعة الحقيقي، حيث الأشجار المقتلعة ترمز للاغتراب، والقمر، رغم أنه بعيد، لكنه قريب جدا من خلال جسيمات ومحركات الكترونية لا ترحب بشكل الكون الإلهي في روح الإنسان. الطبيعة هنا لا تعزي الإنسان تعزية كاملة، بل تواسيه بجرحها الذي يشبه اغترابه، فتصبح الطبيعة مشهداً تراجيدياً. وهذه لعنة الحداثة، فالطبيعة صارت كائناً وجوديا يعكس الألم، والشعور بالانفصال عن جوهر الأشياء، وصعوبة بناء جسور مع النفس ومع الطبيعة من حولنا. وفي هذا التحول الكبير يمكن أن نرى الرحلة الكبرى للأدب والروح في الطبيعية والبيئة، من الحنين إلى لبراءة، إلى الوقوف العاري أمام الفراغ، إلى محاولة ترميم الذات عبر استحضار الطبيعة غير الموجودة في حاضر الانسان، لا كخلاص بل كشريك متشكك باحث في طريق لا يشبهه. الطبيعة في الأدب ليست مجرد خلفية، أو مسرح للأحداث, ولا تأويلاً للقصص والقصيدة, لم تكن الطبيعة فقط خلقاً بل جسداً ممتداً للنعمة الشعورية.