(حيوات متعددة بصوت واحد.. فيلم الأسطورة 1900 الموسيقى الربانية)

“إذا أردت البقاء طويلاً يجب أن تكون لديك قصة جيدة لتقولها، وبالرغم من ذلك فالحكايات لابد وأن تنتهي في لحظة ما، مهما كانت جيدة” إلى أي حد تشبه الحياة أصابع البيانو يا ترى؟ بـ 81 مفتاحاً فقط تُصنع موسيقى لا نهائية ولا حدود لها، هي حكايات وحيوات مختلفة تماماً عن بعضها بالرغم من كونها تأتي من نفس عدد المفاتيح وتصاغ بذات الصوت! وهناك من لا يكتفي بحياة واحدة ليبتكر حياة أخرى تسير بموازاة حياته، فينفخ فيها من روحه وخياله وأحلامه حتى يخيل إليه أنها حقيقة بينما هي مجرد أسطورة، والأسطورة هي أكثر ما نود أن نكونه وأكثر ما يتراءى لنا رغم استحالته. وهذه التقاطه سريعة من فيلم “The Legend of 1900 الأسطورة “1900 ، والفيلم يسرد قصة طفل ولد ومات على سطح باخرة عملاقة عاش عليها طوال حياته، دون أن تطأ قدميه الأرض، حيث يعثر أحد العمال على الطفل في أحد طوابق السفينة متروكاً ليعثر عليه أحدهم، ويقوم بتربيته وتعليمه القراءة والكتابة، وحين يموت في حادثة مفزعة يصبح هذا الطفل ابناً لجميع من هم على سطح الباخرة، طفل لا يعرف معنى أن تكون له أم أو عائلة وأخوة أو حتى لا يعرف المعنى الحقيقي للعب، لينمو بشكل عفوي وفطري بين يدي العاملين على الباخرة دون أن يكون معنياً باهتمام خاص، وفي لحظة عجيبة يجد الجميع هذا الطفل وقد جلس على البيانو ليعزف بمهارة فائقة، دون أن يعلمه أحد ودون أن يتلقن المعزوفات من أحد، موسيقى ربانية خالصة تتدفق إلى ذهن هذا الطفل ثم إلى أصابعه، ليصبح منذ تلك اللحظة وإلى الأبد عازف الموسيقى الأكثر إعجازاً على وجه الأرض وعلى سطح الباخرة. استخدم المخرج السرد من الذاكرة (flashback) كأداة روائية رئيسية في الفيلم من خلال شخصية “ماكس” وهو صديقه المقرب وواحد من عازفي الفرقة الموسيقية، مما يمنح القصة طابعًا أسطوريًا ويثير التساؤل حول مدى واقعيتها، حيث يظهر ماكس وهو يحاول سرد هذه القصة للجميع، لشخص غير موجود في سجلات الولادة والموت، غير موجود على أرض الواقع، شخصية خيالية لا يمكن الإمساك بها ولا يمكن العثور عليه إلا من خلال الحكاية، مدعياً أنه ترك مقطوعة واحدة على أسطوانة مهترئة وهي كل ما قد يثبت وجود عازف السفينة المجنون هذا، يستمر ماكس في أخذنا إلى عوالم هذا الرجل الأسطورة طوال مدة الفيلم، وفي لحظة ما تشعر أن هذا الرجل ليس سوى حكاية لحياة أخرى داخل دماغ ماكس وهي أقصى ما يمكن لموسيقي مجنون وشغوف الوصول إليه. تم بناء الشخصية بشكل تدريجي وعاطفي، حيث يتم الكشف عن جوانب “1900” من خلال حوارات بسيطة ومواقف إنسانية مختلفة، يمثل “1900” نموذجًا للعبقرية النقية، لكنه أيضًا تجسيد للانعزال والحرية المطلقة، في مكان بعيد عن الحياة المعتادة الحياة التي نختار فيها يومياً خياراً واحداً فقط من بين مئات الخيارات، وقد يكون خياراً كارثياً رغم ذلك! قد يجسد عزوفه عن النزول من السفينة الخوف من المجهول، وربما رفضه للزمن المعاصر المادي، مقابل عالمه المثالي المحدود بالمحيط والموسيقى، والموسيقى هنا ليست مجرد خلفية، بل هي عنصر سردي أساسي، تعبر عن المشاعر وتُبرز التناقضات بين الشخصيات، بشكل مدهش وآسر وهي موسيقى الموسيقي الإيطالي (إنيو موريكوني)، ويشكل مشهد التحدي بين “1900” وعازف الجاز Jelly Roll Morton أبرز لحظات الفيلم، حيث يستخدم كمجاز لصراع القديم والحديث، الروحانية مقابل الاستعراض، والفرق ما بين أن تصنع الموسيقى الجيدة أو حين تأتيك كنداء من عالم آخر ! بالنسبة للتصوير والإخراج فقد استطاع (وزيبي تورناتوري) أن يمزج ما بين الواقعية والخيال في تصويره للسفينة كعالم مغلق لكنه غني بالحياة، واستخدام الإضاءة والألوان ليعزز الإحساس بالحلم والحنين، خاصة في المشاهد الموسيقية أو تلك التي تتعلق بالمحيط، فالسفينة تمثل العالم أو الوجود، بينما اليابسة تمثل الحياة الواقعية المليئة بالفوضى والقرارات، خلق من شخصية “1900” رمزاً للفنان الكامل الذي لا يفسده الواقع، لكنه يدفع ثمن ذلك بالعزلة والفناء، ثم ينتهي الفيلم بنهاية مؤثرة وعميقة حيث يختار “1900” البقاء مع السفينة حتى تدميرها، مما يعكس اختياره للبقاء في عالمه، رافضًا التغيير أو التكيف مع الواقع، وكأن النهاية تطرح سؤالًا فلسفيًا عن معنى الحياة، وهل يستحق العالم الحقيقي أن نترك من أجله عالماً مثالياً حتى لو كان محدودًا!! الموسيقى أحد أسرار الكون التي لن تكشف أبداً، ففي المشهد الذي يسأل فيه ماكس 1900 كيف تصنع موسيقاك ومن أين تأتي بها؟ يخبره قائلاً: إنني آتي بها من الوجوه فالوجوه لا تخبئ أصحابها أبداً، وتتجلى حكاياتهم الدفينة في أعينهم بكل وضوح، فألتقطها وأصيغها كموسيقى يتفاعل معها الجميع، بينما يشعر كل فرد منهم أنه وحده المعني بها. قصة الحب الوحيدة والجميلة التي جاءت في الفيلم جاءت كالحلم تماماً مثالية وسعيدة وخاطفة كومضة نجم بعيد، بالرغم من كونها السبب في بقاء الأسطوانة الوحيدة التي حملت موسيقى 1900، وكأنها تمثل لحظة إغواء بالنزول إلى الحياة الواقعية لكنها لحظة نادرة وبعيدة وستبقى كذلك. The Legend of 1900 هو فيلم غني بالموسيقى الرمزية والشعرية البصرية، وهو رسالة حب للموسيقى والخيال، وكأنه تأمل بعيد في معنى الحرية والاختيار، إنه فيلم عن العبقرية التي تتجاوز الزمان والمكان لكن قدرها أن تبقى حبيسة عالمها الخاص. الفيلم من إخراج وسيناريو (جيوزبي تورنتوري) ومن بطولة “تيم روث” و “بروت فينيس” و “بيتر فوغان”.