الفضاء والتخطيط الحضري للنحت.

تتكون بنية المدينة من مكونات مادية هي الكتل والفضاءات ومسارات الحركة، ومكونات معنوية مرتبطة بالإنسان وسلوكه اليومي وردود أفعاله على البيئة المحيطة به، وأنها أصدق تعبير لانعكاس ثقافة الشعوب وتطور الأمم، وهي صورة لكفاح الإنسان وانتصاراته وهزائمه، وهي صورة للقوة والفقر والحرمان والضعف. فمنذ زمن الثورة الصناعية، في القرن التاسع عشر والعشرين، اعتادت المدن التاريخية كالبندقية وفيرونا ولندن ووارسو على منح سكانها إحساسًا بالأمان وتخطيط شبكات الشوارع بصورة مرتبة داخل مناطق محدودة وشبكات تختص بالتوسع المكاني والعمراني، إلى جانب ذلك التطور اللاحق لضواحي المدن الرئيسة، ثم بدأت ثورة الفنون البصرية والاتجاهات الحديثة. وهجر الفنانون صالات العرض والتجؤوا إلى الفن العام في الشوارع، وحرية التعبير الفني والتعبير عن الشكل؛ مما ألهم العديد منهم تقديم الأبحاث التي تدور حول عمليات إدراك العمل الفني ودوره الاجتماعي وحتى السياسي في الفضاء العام. وقد تباينت آراء الفلاسفة والباحثين فيما يخص المكان، وتحديدًا وجهة نظر الإنسان تجاه محيطه بما يحمل من مفاهيم ومتناقضات شكلت معظم تصوراته عن الوجود والحياة، «فتحمل كلمة المكان «معاني الحيز والحجم والمساحة والخلاء، أما في اللغة الاصطلاحية الإنجليزية فغالبا ما تعني كلمة (space) الفضاء الخارجي؛ أي المنطقة الواقعة خارج الغلاف الجوي للأرض، والتي تحسب أنها فراغ». وقد ذكرت كلمة (المكان) بالقرآن الكريم في قوله تعالى {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} (سورة مريم، آية: 22). إن فكرة المكان وموقف الإنسان منها لم توجد دفعة واحدة وانما تطورت مع تطورات الفكر البشري في تعامله مع العالم الخارجي وقد مر بسلسلة من التطورات حتى وصلنا إلى النظرة السائدة في العالم، كما أن لفكرة المكان تأثيرًا كبيرًا على الفلاسفة والمفكرين في مراحل مبكرة للفكر الإنساني، «فالمكان عند القدماء يأخذ طابعًا ميثولوجيًا، فبحسب معتقداتهم ينقسم إلى ثلاثة عوالم رئيسية السماء والأرض والعالم السفلي، وهي مأهولة بالآلهة والبشر والأموات على التوالي». أن هذا التصور الميثولوجي للمكان، بقي حتى بداية الفكر اليوناني قبل ظهور الفلسفة على يد طالس، فموقف الحضارات القديمة في معالجتها للمكان كانت معالجة حسية موضوعية؛ إذ لا يستطيع الإنسان البدائي إدراك المكان إلا من خلال أشياء ملموسة وحسية مثل (البيت، الشجرة)، وهذه الحلول البدائية ساعدت على نمو التصور للمكان فيما بعد عند ظهور الفلسفة اليونانية. تعد رؤية أرسطو إحدى مؤسسات النظريات الحديثة بما يخص تحديد ملامح نظرية المكان، فالمكان -حسب تصوره- موجود ولا يمكن نفيه أو إنكاره، ويمكن إدراكه عن طريق الحركة؛ أي إنه ثابت لا ينتقل بانتقال الحركة التي أبرزها حركة الانتقال من مكان إلى آخر، كما يرى أن كل مكان مقسم إلى فوق وأسفل، والإنسان يشغل ويتحيز في هذا المكان، وينتقل من مكان لآخر. وقد درس الفلاسفة المسلمون أسوة بسابقيهم من الفلاسفة الإغريق المكان ونظرياته، ذكر ابن سينا: بانه «شيء يعتمد عليه الجسم فيستقر عليه» كما كان لفكرة ابن خلدون عن المكان انه مجموعة من القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية والذكريات والأفكار، وأن المكان يشكل ضاغطًا فيزيائيًا وروحيًا، أي مادي وفكري وعقائدي، وكذلك يعبر المكان عن ذائقة ساكنيه اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا. وفي الفكر الغربي الحديث، اختلف المفكرون في تصورهم للمكان؛ إذ «إن المكان الديكارتي لا وجود واقعي له، وإنما فكرة كامنة في العقل، وفي رؤية باشلار Barsur الشمولية للمكان وعناصره الحيوية يتضح الدور التفاعلي للمكان وعناصره ومميزاته ومحتوياته المكانية مادية وروحية فيزيائية وفكرية، وفي ذات الوقت ميزات تتعلق بقدرات الإنسان وإبداعه وأفكاره وتواصله؛ حيث يدخل ذلك جليًا في صناعة المكان ومنحه هويته الجديدة بفعل تلك المعطيات والإبداعات التي احتواها المكان. النحت كعلامة ذهنية للمكان: ركزت الدراسات التي أجراها كيفن لانش K. Lynch (1990) في كتابه The image of the city على هوية وهيكل صور المدينة؛ حيث أشار إلى صورة المدينة، وأهمية مصطلح الخريطة الذهنية في تخطيط المدن كطريقة لتدوين الرمز المكاني والتعرف عليه. يثبت Lynch أن المستخدمين يرون وينظمون المعلومات المكانية بطرق متسقة، ويمكن التنبؤ بها؛ مما يخلق خرائط ذهنية خاصة بهم مع خمسة عناصر: المسارات، والحواف، والمقاطعات، والعقد، والمعالم. وقد أطلق عليها بمصطلح «أثاث الشارع» كما ساهمت العناصر الخمسة التي تحدد تنظيم الفضاء الحضري مساهمة مهمة في تطوير نظريات وأساليب تكوين عناصر الهيكل الحضري بالطريقة التي تتوافق مع الاحتياجات النفسية للإنسان، وقد عرّف لانش Lynch «قابلية التخيل» على أنه الشكل أو اللون أو الترتيب الذي يسهل صنع صور ذهنية محددة بوضوح، وذات هيكل قوي، ومفيد للبيئة. وقد يطلق عليه أيضًا الوضوح أو الرؤية بمعنى متصاعد»، كما كان لاكتشاف إدوارد تشيس تولمان Edward Chace Tolman’s لعملية بناء المعرفة المكانية وتراكمها، أهمية من خلال تصور الفضاءات الحضرية ووضع أساس لبناء الخرائط الذهنية كأداة للتعرف على صورة ((image وشكل(form) المدينة؛ مما سمحت طريقة رسم الخرائط الذهنية أيضًا باكتشاف نوع الاهتمام الذي أولاه الناس لأماكن معينة، وما هو الدور الذي تلعبه الأعمال الفنية في التعرف على الفضاء الحضري وتحديده. ولبناء هذه الخرائط الذهنية؛ تعتبر العلامات أحد أهم أساسيات إدراك الفضاء البصري، فهي عملية معرفية نفسية تتكون من نسخ ذهني للأشياء وأحداث العالم الخارجي فيما يتعلق بالعمليات التي تحدث في جسم الإنسان، وهي الخريطة المعرفية بين إدراك الفضاء وبناء المعرفة المكانية. واكتشاف المخطط المعرفي الذي يتحكم في عمليات الإدراك والتعرف والحفظ في الفضاء المادي. كما أن عملية الكشف عن أجزاء مختلفة من المدينة يكون من خلال الحس البصري الجمالي الذي يعتمد على حاسة البصر كأساس في موضوع التأمل عند توجيه الانتباه إلى شيء ما دون الأشياء الأخرى، فعملية الحس البصري قد تكون من خلال انعكاسات كتلة ولون الأشكال الخارجية المحيطة من حولنا التي تمر من خلال عدسات العينين، وتسجل كصورة ذهنية بواسطة المخ، فبالتالي تُكوّن علامة. والمقصود بالعلامة هنا هو النحت الخارجي الذي يوضع في الأماكن العامة الذي يبلغ أهمية لمعرفة وإيجاد هوية الأمكنة، فغالبًا ما يُعرف المكان من خلال النحت كعلامة، ولهذه العلامة خصائص يمكن من خلالها التعرف عليها من بين العديد من العوامل. أي أن يكون هناك شكل واضح يتناقض مع البيئة المحيطة به، يمكنه ببساطة التعرف عليه فهي تلك الأشكال النحتيَّة ثلاثية الأبعاد، والتي تُصمم وتُنفذ خصيصًا لكي توظف أو توضع في الفراغ وسط ماديات البيئة بالأماكن المفتوحة بها، خارج حدود قاعات العرض المعتادة، ولهيئاتها رؤى شكلية، ومفاهيم بنائية ومواصفات تشكيلية تجعلها من نسيج البيئة المكانية الموجود فيها وجزءًا لا يتجزأ منها. أن العلامة في الفن يمكن رؤيتها على نحو خاص في علاقتها بالمجتمع، وتنشأ شخصية العمل الفني أساسًا من الطبيعة الاجتماعية للفن، فالبنية الداخلية للعمل الفني تكون في علاقة معينة مع نظام القيم الموجود في المجتمع المحدد أيديولوجيا. ومن الملاحظ بأن هناك عنصرين مهمين لتطوير الإحساس بالمكان من خلال المنحوتات الحضرية، وهما إنشاء عمل فني فريد في المواقع، وتطوير الوعي بالتقاليد والهوية الفريدة لمكان معين وهذا ما يظهر في التمثال «ملاك الشمال»، The Angel of the North للفنان البريطاني أنتونيAntony Gormley؛ حيث يعد علامة لمدينة غايتشيد Gateshead في إنجلترا، وقد لعب دورًا مهمًا في تغيير صورة المدينة من صناعية إلى مدينة ثقافية؛ لأن الهدف الذي سعى إليه الفنان من إنشائه هو التذكير بالعمق التاريخي لهذه المدينة، ولفهم أجيال المستقبل بأنه يوجد أسفل هذا الموقع عمال مناجم الفحم لمدة مائتي عام، بالإضافة إلى التعبير عن الانتقال من العصر الصناعي إلى عصر التكنولوجي. وللنحت الخارجي دورٌ مهم في الفضاء الحضري للمدينة بشكله ووظيفته، وكذلك نقل محتواه من حيث عملية زيادة جاذبية الأماكن العامة وجعل المدينة أكثر خصوصية، بالإضافة إلى عامل تكامل المجتمع المحلي وطريقة بناء هوية المكان، فهو يوفر نوعًا من أنواع الانتماء الاجتماعي وخصوصية للمدينة، ويرفع من مستوى الوعي العام من خلال التعرف على القيم والرموز الثقافية الخاصة بالمدينة، وبالتالي فإنه يحسّن مستوى المعرفة والوعي العام للمواطنين بشأن الأحداث التاريخية؛ مما قد يخلق مشهدًا ثقافيًا عالقًا بالذاكرة الجماعية للمدينة. * دكتور مساعد في فن النحت قسم الفنون والتصاميم، جامعة القصيم nohaalsharif2030@gmail.com