في (دُرَّة الجنوب جازان) للشيخ ناصر مصطفى..

فصولٌ توثيقية من التاريخ الثقافي والاجتماعي في منطقة جازان.

(كان الشيخ ناصر مصطفى ذاكرة متنقلة وحاضرة على الدوام … فضلاً عن أنه كان شاعراً رقيقاً رقة إحساسه ودماثة أخلاقه … وكنتُ على الدوام أشعرُ بأنني أتعلَّمُ منه وأستفيدُ من تلك المعلومات الثرية التي كان يحدثني عنها ولا سيما عن الرموز الكبيرة في هذا الوطن ) . د . هاشم عبده هاشم . الشيخ الأديب المؤرخ ناصر مصطفى من مواليد جازان عام ١٣٤٢ هـ ، وفيها تلقى علومه الأولية في معلامة والده وبعدها انتقل إلى المدارس الأهلية الخاصة بالفقيه علي بن أحمد عيسى ولما فتحت المدارس الحكومية التحق بها عام ١٣٥٥ هـ مع كوكبة من أقرانه في تلك الفترة وكان منهم الشاعر الكبير محمد بن علي السنوسي ومعالي الفريق يحيى المعلمي رحمهم الله تعالى،واجتهد الشيخ ناصر مصطفى في طلب العلم وتلقي المعارف في حلقات المشايخ في منطقة جازان آنذاك ثم ارتحل إلى مكة المكرمة طلباً للعلم وتلمساً للعمل فاشتغل في إدارة التموين بتعيين من معالي الوزير الشيخ محمد سرور الصبان،وحرص على تحصيل العلوم ومداومة الحضور في حلقات الدروس في المسجد الحرام في مطلع الستينيات الهجرية ثم عاد لمسقط رأسه في جازان مرافقاً لزميله الشاعر محمد بن علي السنوسي وتنقل بعدها ما بين جازان وجدة والرياض مستقراً به الحال في مدينة جدة ،وفيها توفي عام ١٤٢٥ هـ . يقول الشاعر محمد بن علي السنوسي في القصيدة المغناة : جازان يادُرَّة الجنوب الباسم الناعم الخصيب لكل قلبٍ إليك شوقٌ مضمَّخٌ من هوى وطيب . من هذه القصيدة اُشتقت العتبة الأولى لهذا الإصدار ( درة الجنوب جازان ) وفي هذا إشارة جلية الى مقربة المؤلف ناصر مصطفى من إنتاج الشاعر السنوسي . والقارئ للكتاب سيتوقف شاكراً الدكتور هاشم عبده هاشم فقد كان المحرِّض على نشر هذه الجواهر التي كانت حبيسة في صدر كاتبها،فقد سعى إلى نشر ما سطره المؤلف ناصر مصطفى في جريده عكاظ في شكل مقالات في فترات متقطعة ، والشكر الجزيل لأخي العزيز عبدالله بن ناصر مصطفى الذى أدى دوره المطلوب منه فجمع هذه الكنوز البديعة المتناثرة ثم تبويبها في فصول سبعة مع الملاحق المصاحبة ، والفصول الحاوية للكتاب هي على التوالي : من ذاكرة الوطن ، مدن ورحلات ، من الرجال الأعلام ، من خواطري المدونة ، من قراءاتي الأدبية ، ذكرياتي مشاهد و صور ، ما كُتب عن الكتاب والخاتمة . و كل فصل منها اختص بغرض متعين و محدد ففي الفصل الأول (من ذاكرة الوطن)نجدُ المقالات التي عالجت المناحي التاريخية لوطننا المملكة العربية السعودية ، وتناولت المقالات صوراً من التاريخ الثقافي عن حياة المؤسس الباني الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله تعالى ، سواء ما كان موضوعاً خصباً في دواوين الشعراء المعاصرين أو في كتابات الأدباء والمؤرخين والكتاب المعاصرين لعصر جلالة الملك المؤسس ، وهكذا تعاملت المقالات مع سائر ملوك المملكة العربية السعودية من أبناء المؤسس ، وأحياناً يكتب مما تمليه ذاكرته الشخصية الحاضرة فيما وقف واطلع عليه من أحداث و ذكريات وقصص يرويها ( وأتذكر القصة الأولى أرويها كما عاصرتها ؛ لأنَّ فيها الكثير من الصفات الكريمة للملك عبدالعزيز طيب الله ثراه . فعندما كنتُ محاسباً في مالية جازان ، تبلغَّتْ مالية جازان أمراً من الوزير ابن سليمان تنفيذاً لأمر الملك ، ومنه صورة لإمارة جازان بتبليغ صاحب الشأن مراجعة المالية ، فجاءنا شخصٌ كبيرٌ في عمره وأخلاقه،وأسلوبه يفرض عليك احترامه وتقديره ، هذا الرجل متعلم مثقف ونظيف الملبس، سلمنا عليه وتعرفنا على اسمه بحكم العمل وبعد إعطائه أمر الصرف ثلاثة آلاف ريال تحويلاً له بموجب أمر الملك عبدالعزيز ، فسألناه عن قصته وعلاقته بالملك فقال : كنا زملاء في مدرسة بالكويت ندرس ثم افترقنا ، سافرتُ أنا مع والدي إلى حضرموت والملك عبدالعزيز حقق الله له طموحه بعزيمته ، فقام مؤمناً ومستعيناً بالله فتحقق أمله وفتح الرياض وأقام هذه الدوله الفتية ولكن التواصل بيننا لم ينقطع ، فأنا أكتبُ له وهو يجيبني وكثيراً ما كان يشملني عطفه حتى وأنا مقيمٌ في بلادي حضرموت ) . ولا يخلو الفصل الثاني (مدنٌ ورحلات )من سرد رحلاته العلمية التي كانت للعلم والدرس وللعمل أو التي كانت للتثقيف الشخصي والتنزه والترفيه وإن كان بعضها تفاجأ بالرياح المعاكسة التي تأتي بما لا تشتهي السفن ومنها هذه الرحلة (وقد كان قدومي الأول ومعرفتي بجدة حينما جئتها بطريق البحر في سفينة اسمها (العطية ) و لمعاكسة الرياح مكثْنا في البحر شهراً كاملاً خرجنا من جازان ليلة هلال شعبان و وصلنا جدة ليلة هلال شهر رمضان ١٣٦٠ هـ وكنا لا نأكل إلا الدخن والذرة وزيت السمسم … ) والحق أنَّ المؤلف كان يمتلك ذاكرة حديدة متوسعة في استحضارها للشخصيات التي تعامل معها علميا ووظيفياً و للرجال الذين تعرف عليهم أثناء رحلاته وزياراته للأماكن على مستوى الأشخاص العاديين وأما الذين كانوا أعلاماً في عصرهم فلقد كان لهم النصيب الأسمى في ذاكرته الحاضرة فسطر المؤلف ذخيرة من المعارف والمعلومات والمعطيات ورصيداً عزيزاً من الذكريات التي لن نجدها إلا في معيته ولذلك تفرد الفصل الثالث (من الرجال الأعلام ) بسرد فريد لأعلام سواء في منطقة جازان أو في غيرها من المناطق التي وصلها المؤلف ( ويحضرني أنَّ الأخ يحيى المعلمي كان ضمن الأوائل على المستوى الدراسي وأكثر حرصاً على الدراسة والتعليم ،كانت تلك الفترة في حدود عام ١٣٦٥هـ وما بعدها وذلك بعد انتقال والده العم عبدالله المعلمي من إمارة قنا والبحر إلى إمارة أبوعريش وعندما استقر في جازان سكن في بيت العم عبدالله زيدان الذي لا يفصل بيننا وبينهم إلا جدارٌ من ناحية الشرق ثم انتقلوا بعد سنة تقريباً إلى بيت جارنا من جهة الغرب محمد صالح بريك فكانوا نعم الجيران ) هذا المقتطف جزء من سردية المؤلف عن زميله معالي الفريق يحيى المعلمي . والقارئ للكتاب سيجدُ فيه متعة التاريخ وأخبار الشعراء وحكايات الأدباء ونوادر الحوادث وسرديات للشخصيات المؤثرة في مجرى بلادنا، ولن نشعر بخصاصة المؤرخين القاصرين إصداراتهم على الجانب السياسي للأحداث وحسب ولكن سنطالع التتبع الموسع للشخصيات العامة ذات المناصب الحاكمة والقيادية بجانب أنَّ القارئ سيمتح من معين علم حقيقي معاصر وسيرتوي من عذوبة قلم مواكب لما يدونه وهنا ستتوسع القراءات لظلال الأحداث وستشتمل الحكايات على المقصي المنزوي عن العيون والبعيد عن الآذان وسنجد في الكتاب مصاحبة لشخصيات قريبة منا غابت عنا تفاصيل حكاياتها ومنها التي أوردها المؤلف في الفصل الرابع (من خواطري الأدبية )حيث يسطر فيه تلك الحكاية الفريدة عن قدوم الشاعر الكبير حمزة شحاتة إلى جازان آتياً عن طريق البحر من عدن ونزوله ضيفا عند أحد معارفه . ويدأب المؤلف على هذا المنهاج من البث التاريخي والتقصي الأدبي في كل فصول كتابه ويتجلى ذلك كثيراً في الباب الخامس (قراءاتي الأدبية )ففيه مطالعاتٌ لشخصيات معاصرة وتاريخية مثل الخليفة العباسي المأمون والشريف الرضي و ابن زيدون وغيرهم . وأما الفصل السادس (ذكرياتي مشاهد وصور )فهو القلب النابض في الكتاب ؛ لأنه يحتوي على ذاكرة اجتماعية وأدبية وثقافية خاصة بمنطقة جازان ولن نجد مثل هذه المعطيات لدى غيره من المصادر من مثل ( قلعة الدوسرية تقع فوق جبل الشريف شُيدت في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله ،والذي أشرف وتابع عملية البناء مدير المالية آنذاك عبدالله قاضي وكان في أواخر عام ١٣٥١هـ وأوائل ١٣٥٢هـ ، ويذكر بعض المعمرين أنَّ أجرة العامل وقتها ما بين خمسة وعشرة قروش لليوم الواحد ) . رحم الله تعالى الشيخ ناصر مصطفى فقد كان عيوفاً عفيفاً زاهداً في طلب الشهرة ، والكتاب حافلٌ وحاشدٌ و يسدُّ حلقات من التاريخ الاجتماعي والأدبي والثقافي في منطقة جازان بخاصة ، والذي يعرف المؤلف ناصر مصطفى الإنسان سيتفق حتماً مع الوصف الذي قدمه ابنه الأخ عبدالله (فقد كان رحمه الله تعالى الأب الحبيب الأديب العفيف الشريف الأنيق النظيف والأنيس الظريف …) .