محاولات سردية..

منذُ بُرعمِ الطفولةِ حتى وردة الروح.

1 في طفولتي كنتُ في الصيف أرحل مع عائلتي من “ فرسان “ إلى قرية صغيرة اسمها “ القصار “، أعيش بها أربعة أشهر هي فترة الإجازة الصيفية حينذاك.. هذه القرية - التي تشبه قبضة ريحان - غارقةٌ في أشجار النخيل والظلال والحنين والأغاني وأعراس النوارس وخطرات الغزلان الرشيقة.. البيوت محض بساتين تتوسطها آبارٌ ذات مياهٍ عذبة، بيتنا البسيط كان فناؤُهُ بستانَ نخيلٍ فاتنًا ومؤثثًا بالشجن كصوتِ أمي.. ليلًا كنا ننامُ باكرًا في الفناء المفتوح على همس النجوم ونزهة الغيوم وحفيف السعف حين تداعبه النسائم القادمة من جهة البحر القريب كنبضةِ قلب.. فجرًا نستيقظُ على موسيقى البلابل والعصافير وهديل الحمام وعبق القهوة والهيل ورائحة خبز التنّور والمطر ... باكرًا كانت أمي تقطفُ وتملأ سلَّةً صغيرةً من الرطب لنتناوله مع القهوةِ المُرّةِ المستطابة، وباكرًا كنا نسمع خُطى الحياةِ وهي تدب حثيثةً في الطرقات، وباكرًا أيضًا كنا نصغي إلى أعراس القلب واخضرار الفرح... في هذه القريةِ عشتُ طفولتي كاملةً بكل تفاصيلِها الصغيرةِ الجميلة ، كنتُ ورفاقي نتناولُ الرطبَ مباشرةً من نخيلٍ يقبعُ في فناءِ الدار ، ونصيدُ السمكَ من الشطٍّ القريبِ فيما هو يلمعُ تحت ضوءِ القمر ، ونتأملُ الغزلانَ وهي تتلاطفُ وحين تحسُّ بنا تفرُّ خلسةً من بين الأصابع ، نراقبُ الدجاجاتِ كي نظفرَ ببيضِها الدافئ الطازج، و نخطفُ خبزًا ساخنًا من “ تنّور “ الأمِّ ونركضُ بعيدًا وهو يلهبُ أيدينا التي لا تعرفُ الترف ، ونستيقظُ باكرًا رفقةَ العصافير وهي تحلّقُ فوق رؤوسنا ، ومن كثرةِ الحمامِ خُيِّلَ لي أننا نغرقُ في الهديلِ الناصع .. كل صباحٍ أيضًا كنا نشاطرُ الجِدَاءَ الصغيرةَ حليبَ أمهاتِها وهي تشربُ من حوضٍ منحوتٍ من حجرٍ أملس قربَ بئرٍ مليئةٍ بمياهٍ عذبةٍ وباردةٍ تقبعُ في ظلالِ الأشجار، ومن فرطِ محبتي لهذه الجِداءِ كنتُ أناديها برفقٍ هكذا: يا أشقائي. أيامُ قريةِ “ القِصَار “ كانت من أجملِ أعيادِ القلب، حيث متعة قطف البلح، واصطفاء أجمل البلابل، الضحك العالي في ظلال النخيل، تلك النزهة العائلية الباهرة في ساحل “ تِبْتَا “، إطلاق طائراتنا الورقية في أفقٍ صافٍ كالمرايا، زيارة بيتِ أختي الكبرى والوحيدة مغربَ كلِّ يومٍ، صُحْبَةَ أمّي اللطيفةِ كنسمة.. بيت أختي هذا الذي في حيِّ “ البستان “ محاطٌ ببساتينِ النخيلِ المثمرةِ رطبًا ونجومًا لامعة، ومؤثثٌ بزقزقاتِ العصافير وهي تودّعُ نهارَنا الآفل، هناك نقضي سهرةً جميلةً مليئةً بالحكاياتِ التي أغفو على ضفافِها. في ذلك الفناءِ الواسعِ المسكونِ بمباهجِ الطبيعةِ يدركنا فرحٌ غامرٌ من أفراحِ ليالي الصيف، حيث هسيس السعف وهمس النسائمِ الناعمةِ كالحرير وأصواتِ الكائناتِ الدقيقةِ التي تقيمُ أعراسَها في فناءِ القلب.. في “ القِصَار “ أذكرُ نومَنا العميقَ تحت سماءٍ مدججةٍ بملايين النجوم، مباهجَ المطرِ في الهزيعِ الأخيرِ من الليل، متعةَ تأمُّلِ السحبِ وهي تقدّمُ هادئةً عروضَها المدهشة، شجنَ أغنيةٍ تفيضُ من مذياعٍ بعيد، ذلك السهرَ العذبَ في الأعراس الجميلة، دفءَ الجيرانِ الذين كنا نصفُهم بأنهم من فصيلةِ النور، ورقّةً وارفةً في قلوبِ الناسِ البسطاءِ الذين كنا نحسبُهم يشبهون الملائكة. في صباحاتِ “ القِصَار “ - التي لا مثيل لها - ثمة طائرٌ جميلٌ نسميه “ أبو مرح “، تربطني به علاقةٌ دافئةٌ وعميقةٌ مُذْ كنتُ طفلًا.. كان ينهضُ باكرًا ويوقظُنا بغنائهِ العذب.. ثم يجلسُ مع حشدٍ من أصدقائه الفاتنين على سعفِ النخيلِ الذي يتوسط فناءَ الدار، يتناولون فطورَهم رُطَبًا شهيًّا، ويقيمون أعراسَهم الخاصة، تلك التي تفيضُ في قلبي حتى لحظة كتابةِ هذا النص.  2 في موسمِ صيدِ الحريدِ في “ جزيرة فرسان “ ، ثمة تفاصيل صغيرةٌ تلهبُ ذاكرتي منذُ برعمِ الطفولةِ حتى وردةِ الروح : رائحةُ “ البُوسِي “ التي تسطعُ ليلًا ، “ كيس الصيد “ وطريقة إعداده مع الطوق والحبل قبل أن يحينَ الموسمُ بوقتٍ كافٍ ، ركوب الحمار ليلًا والوصول عند تباشير الفجر الأولى حيث تكونُ وقائعُ الصيدِ في منطقة “ حَصِيص “ الجميلة ، تناولُ طعامِ “ الفطورِ “ المتقشّفِ الذي تعدُّهُ الأمهاتُ ليلًا ، ممزوجًا بالزغاريدِ والفرحِ والأماني البهيجة ، الأغاني العذبة المصاحبة للموسم : “حريدنا قد خرجْ ، و ردّ العاده “ أو “ قال المغنّي : الحريدْ جابُهْ مُصفّى وَدَّا سِعْديه وقَفَّى “ ، حيثُ يندلعُ هذا الغناءُ الحارقُ الطالعُ من قلوبِ نسوةٍ في “الجزيرة “، وهي قلوبٌ رقيقةٌ ، هَشّةٌ كهشاشةِ البسكويت. إنَّهُنَّ بهذه الأغاني الشهيةِ الوافرةِ يعذبْنَ الليلَ الناعسَ الناحلَ الطويلَ الذي يصغي باهتمامٍ إلى حرائقِهِنَّ الجميلة.. كلُّ هذه الفتنةِ الصارخةِ التي تحتشدُ في ذاكرتي الآن، تحتشدُ في فناءٍ مفتوحٍ على سماءٍ عريضةٍ كالأماني، على سماءٍ مثمرةٍ بالغيومِ أو بالنجوم ، كلُّ هذه الفتنةِ التي تتدفقُ في ذاكرتي الآن ، تتدفقُ في فناءٍ يلوبُ فيه هواءٌ خفيفٌ كريشِ طائرٍ ، هواءٌ يعبقُ هو الآخرُ برائحةِ الفُلِّ الذي تُصَاغُ منهُ عقودٌ أنيقةٌ تطوّقُ أعناقًا فارهةً كأعناقِ تلك الغزلانِ التي كانت فيما مضى تغفو في ظلالِ البيوتِ حين الظهيرة.   3 في طفولتنا الحافية، في “ جزيرة فرسان “، كنا نأكل في البيت الذي يضع وجبة الغداء قبل بيوتنا.. وكانت “ اللقمة الهنية تكَّفِي ميّة “.. مثلًا كنا نأكلُ في بيت العم “مُصَّفَى” ، وهو رجلٌ كادحٌ وفقير.. كان هذا البيتُ - الذي نعتبره بيتَنا - عامرًا بزوجته الطيبة الكريمة المسكونة بالمرح وبأطفالِهِ الخمسةِ رفاقِ دروبِنا العسيرةِ وأحلامِنا التي لا تحسنُ الانطفاء.. ورغم هذا كنتُ - وأطفال الحارة الذين يلعبون معنا - نشاطرهم طعامَهم القليلَ الزهيدَ من دون أن نشعرَ بأيِّ حرج. الذي رَسَخَ في ذاكرتي حتى يومنا هذا هو أنَّ العم مُصَّفَى لم يكن مكترثًا لكثرتنا أو ضجيجنا، ولم يكن حانقًا على هذا الحشد من الأطفال الذين يفسدون عليه راحته ويشاطرون أطفاله الطعام، وأنَّ زوجته التي تدهنُ مكابداتها بالمرحِ الغضِّ لم تكف عن مرحها يومًا ولم تتذمَّرْ أبدًا ولم تذبل ابتسامتُها المتفتحةُ كوردة رغم الفقر وشظف العيش وقسوة الحياة وعبوس الزمن. أيضًا كنا - نحن الصغار الذين نلهثُ في الطرقاتِ كالغيومِ الظامئة - ننفقُ وقتًا طويلًا ونحن نلهو في شوارعِ الجزيرة، وحين نظمأ ندخل إلى أيِّ بيتٍ بكل ما في هذه الدنيا من رعود وبكل ما في أعماقنا من صخب؛ ندخل كي نروي عطشَنا من الزير أو الشربة أو الكاليه أو البلبلة التي تقبع في فناء البيت تحت ظلالِ شجرةِ لوزٍ أو دوحةِ تينٍ أو نخلةٍ كريمةٍ كأم.. الصورةُ الأجملُ التي تلمعُ في الذاكرة هي: لم يكنْ يغضب منا أحد، أو يطردنا أحد، أو يقول بحقِّنا كلمةً رديئة.  4 ثمة سيدة - لكي تعدلَ مزاجَها - تملأ نصفَ إبريقِ الشاي سكّرًا.. هي في الحقيقةِ كانت تحتسي سكرًا بالشاي وليس شايًا بالسكر.. وعلى الرغم من هذا كلِّهِ عاشت قويّةً، متماسكةً، “ تبرم “ شوارع “ الجزيرة “ بقوة وصلابة كما لو أنها خلقت من فولاذ.. لم تكن تعاني من أي علة، لم تكن تتوعك البتة، ولم يمسسها وهنٌ أو عطب.. حين وافتها المنية - بعد عمر طويل - وافتها ليلًا وهي مستلقية على سريرها في فناء الدار المؤثث بالنخيل ونسائم البحر وهمسات السعف وأطياف الذكريات.. تتأمل بمتعةٍ لا نظير لها سماءً أنيقةً، عريضة، صافية، عالية، جميلة، مدججة بآلاف النجوم..  5 حين دخلَتِ الكهرباءُ “ جزيرتَنا “ الصغيرةَ، كانت السيدة “جميع” ـ التي تعيشُ وحيدةً كآهة ـ أكثرَ الناسِ سعادةً وبهجةً بالنور، هذه السيدة التي أفنَتْ حياتَها في تربيةِ شياهها البيضِ كالثلج، وأنفقتْ وقتها في تربيةِ الأمل، أرادتْ ـ ذاتَ حُلْكَةٍ ـ أن تشدَّ وثاقَ خروفٍ مشاكسٍ بحبل، وبسبب عتمةٍ ضاربةٍ في المكان لم تبصرْ جيدًا؛ فأمسكت بسلك الكهرباء الذي كان عاريًا، هذا السلك العاري المهمل كان سببًا في إطفاءِ حياتِها المضيئة.  6  كانوا سبعةً، يجلسون عصرًا في الظلال المديدة، في الجهة المقابلة لدكان العم عبدالله، أربعةٌ منهم يلعبون “ الضومنة “ بحماسة، والآخرون يتابعون بشغف فيما ينتظرون “ دورهم “ في اللعب بفارغ الصبر، وعلى الشفاه يتأجج سؤالٌ ملّح: “الدور على مَنْ؟ “. ذات صباح تلّقى أحدُهم رفسةً قاتلةً حين كان يحلب بقرته الوحيدة.. بعد هذه الحادثة سقط هؤلاء الرجال الواحد تلو الآخر في أيامٍ معدودة.. اثنان منهم بقيا وحيدَيْن يلعبان “ الضومنة “ عصر كل يوم، بهدوء، ومن دون أن يزعجهما أحد ...في ظلال الفجيعةِ سأل أحدهما الآخر بهلع:”الآن يا صاحبي الدور على مَنْ؟  7 في مطلع السبعينيات، كنتُ طفلًا في التاسعة.. عائلتي كانت فقيرةً كسائر سكان قرية “ القصار” الغارقةِ في ظلالِ النخيلِ وأعراسِ المطر.. ابنُ جارتنا اليتيمُ المراهقُ كان متيمًا ببسكويت “ أبو ميزان “.. حين لا تستطيع أمه المعدمة شراء علبة البسكويت من دكان العم “ شعبين “ يبادر إلى ملء قبضتيه بالحجارة ثم يصعد إلى سطح البيت مهددًا بتفجير “ زير “ الماءِ من عَلٍ، إنْ لم تستجبْ لمطالبه.. وبما أن “الزير” كان يعدُّ من نفائس ذلك الزمان، تضطرُّ الأمُّ الطيبةُ أن تشتري على مضض ذلك البسكويت إلى حين ميسرة. ذلك المراهقُ الفقيرُ الطائشُ مثلنا كان أجملَ “ إرهابيٍّ “ أحببتُهُ في حياتي.  8 مُذْ كنتُ طفلًا فتحتُ عينيَّ على صياد سمك اسمه “ أحمد العويني “، التهمَ سمكُ القرشِ ذراعًا له، وأبقى له ذراعًا.. ومع هذا لم يستسلمْ لما حَلَّ به.. بعنادٍ فروسيٍّ مذهلٍ ظلَّ متشبثًا بالحياة: يذهبُ إلى البحر كل صباح، يجذّفُ، يصيدُ سمكًا، يملأُ السلالَ، ويدفعُ قاربَهُ إلى الشطِّ حينَ الإيابِ وينجزُ مشاغلَ البحرِ كلَّها بيدٍ واحدة.  9 بين “ الزهبين “، ثمة شارع طويل يقع بين مزرعتين تموج فيهما سنابلُ الذرة.. في ظلٍّ أخضر يجلس العمُّ “ عيسى “ على بطانية قديمة عصر كل يوم.. “ناظوره” نافذتنا الصغيرة على الدنيا الفاتنة التي كنت أحلم بأن أدسها في جيب قميصي الصيفي فيما أستلقي طويلًا في رحابةِ الندى.. العم عيسى يتيح لنا - نحن الصغار - أن نطل من تلك النافذة بأعين مندهشة لنتنزه في أجمل مدن العالم: باريس، روما، لندن .... هذا الرجلُ البسيطُ العادي كان ينهضُ بمهمةٍ ليست عاديَّةً: تثقيف العيون، تربية الذائقة،  ومنحَ المخيلةَ أفقًا شاسعًا كي تطير.  10 كوكبةٌ من الأطفالِ نحنُ ، نسبحُ في مياه الغدير بقريتنا الصغيرةِ المؤثثةِ بالأشجارِ الوارفةِ والغيومِ المثمرة ،اقتربَ مِنَّا طفلٌ يرتدي ملابسَ نظيفةً- هو ابن سيدة صارمة كانت تعلمنا القرآن الكريم في القرية - من نظراته وأسئلته علمنا أنه يتوق لأن يلهو معنا في مياه الغدير لكنه بدا مترددًا ..قطعَ عليه أحدُنا تردده قائلًا : إذا كنتَ خائفًا على ملابسك النظيفة من البلل والوحل اخلعها كما خلعنا ملابسنا تلك المعلقة على أغصان تلك الشجرة ..وأضاف آخر بخبث: نحن هنا كلنا عرايا ..ولأن ماء الغدير كان ملوثًا بطينٍ قاتمٍ يرتدي أجسادنا الضامرة ، بدونا له كما لو أننا عرايا تمامًا. بعد تفكيرٍ لم يَدُم طويلًا خلع صديقنا جميع ملابسه وانزلق في الماء كسمكةٍ خجول. فجأةً بزغت سيدةٌ داكنةٌ - هي في منزلة المسؤولة عن متابعة شؤونه اليومية - وراحت تنادي عليه بصوتٍ عالٍ.. بخفَّةٍ قفزنا من الغدير مثل جِداءٍ صغيرةٍ لأننا كنا نرتدي ما يستر عريَنا “ السفليَّ “، أما هو فمكثَ تحت الماءِ خائفًا وَجِلًا تلمعُ في مخيلته أطيافُ سياطِ تلك المرأةِ الصارمة. 11 في قريتنا الصغيرةِ التي يبللها الهديلُ الفخم، وفيما كنت أسيرُ متمهلًا - صحبة صديقي الأسمرِ النحيلِ كخيط - بين بستانين عامرين بأشجار النخيل.. برزت أمامنا فجأةً حمامةٌ جميلة، حلقت قليلًا، ثم استقرت بقلقٍ على سُور البستان الذي يقعُ يمينَ أحلامنا. في اللحظة ذاتها انحنى صديقي - الذي كان يرتدي قميصًا مهترئًا وسروالًا قصيرًا باليًا - والتقط قطعةً صغيرةً من الزجاج، كانت دائرية، سميكة، وحادة.. بخفَّةٍ قذفَ بها صوبَ الحمامةِ التي اختفت عن الأنظار.. ظننتُها طارت بعيدًا.. لكنَّ صديقي الذي يحملُ على كتفيه تسعًا من السنوات أصَّرَ على انه أصابها.. تسلقنا برشاقةٍ سور البستان، وإذْ بجثّةِ الحمامةِ في جهةٍ ورأسِها الصغيرِ في جهةٍ أخرى، وثمة بقعةُ دَمٍ تلطّخُ وجهَ براءاتنا الأولى!  12 وأنا في التاسعة، كان أبي يصطحبني معه في قاربه الخشبي الصغير لاستخراج اللؤلؤ من أعماق البحر، لم أكن أحسن السباحة لكني كنت أتولى مهمة رفع السلة إلى سطح القارب.. حين يشدُّ أبي الحبل من الأقاصي معناها إنه ملأ تلك السلَّةَ بالأصداف التي ربما تكنز بباطنها لؤلؤًا ثمينًا ويتعيّن عليَّ أن أسحبها إلى الأعلى.. أبي كان يهوي إلى الأعماق السحيقة من دون اسطوانة الأوكسجين.. الصيادون في “ الجزيرة “ لم يكونوا على علمٍ بهذا الترف.. أبي كان يمكث في الأعماق طويلًا بحثًا عن الأصداف، وأنا كنت ـ على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي ـ وحيدًا أنتظر بزوغه كشمسٍ ناضجة، وحيدًا كنتُ، مستسلمًا لهواجس الخوف وأسئلة القلق المريرة: ترى كيف لو لم يعد أبي من هذه المياه المعتمة؟ وماذا كنت سأفعل أنا الطفل الوحيد ابن التاسعة في هذه الزرقة العريضة العمياء؟  13 كان أبي - صيادُ السمكِ البسيط - يذهبُ إلى المسجدِ صامتًا ولا يقولُ لأيٍّ منا نحنُ الأولاد الثلاثة: “ هيَّا إلى الصلاة “، كان يكتفي بأن يتوضأ أمامَنا حسب. ذاتَ مَرَّةٍ سأله أكبرُنا: أبي لماذا لا تقولُ لنا اذهبوا إلى الصلاة؟ أجاب: مَنْ فينا الذي يعرفُ اللهَ أكثر من الآخر؟ أنا الأميُّ أم أنتم يا أبناءَ المدارس؟ وهنا رَانَ على المكانِ صمتٌ عجيب!  14 العم “ عمر “ يكون مريضًا، محمومًا، متعبًا جدًّا، وراقدًا في السرير مثل جثة.. ما إن يسمع “ نقرة الزِّير*” حتى يدبَّ في جسده نشاطٌ غريب.. فجأةً يتحرك، ينهض كما لو كان حصانًا، ويمضي راقصًا نحو “ الساحة “ المجاورة؛ ليشارك الناس رقصهم وأفراحهم وغناءهم الذي يملأ ليلَ الجزيرة.   * الزِّير: نوعٌ من أنواع الطبول، حين يدق عليه أحدهم يسري في الجسد دمٌ جديد، وفي الأعماق تتفتح روحٌ أخرى.